ولنا في تاريخنا عبرة.. في أول عام 1965 انطلقت قوات العاصفة الذراع العسكرية لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) لتعيد القضية الفلسطينية إلى مسارها الصحيح، بعد أن كانت قاب قوسين أو أدنى من الاغتيال على أيدي إسرائيل وبعض الحكام العرب. وكان انطلاق فتح والعاصفة هو الحدث الكبير الذي أسقط قناع المتاجرة بالقضية الفلسطينية الذي يتستر به البعض. وكان حكام تلك الدول قد أعلنوا في العام السابق تكليف أحمد الشقيري بإنشاء «منظمة التحرير الفلسطينية»، لتكون ممثلا للشعب الفلسطيني، يتحدث باسمها عربيا ودوليا. ورغم تشكيل المنظمة من قلب مؤسسة «الجامعة العربية»، فإن انطلاق قوات العاصفة جعل للمقاومة الفلسطينية بندقية. واقترنت المقاومة بمنظمة «فتح»، فأصبحت المقاومة هي «فتح» وأصبحت «فتح» هي المقاومة. الآن، وبعد رحلة طويلة وشاقة للنضال الفلسطيني عادت المقاومة لتبعث من جديد، رغم تبدل الزمن واختلاف الأشخاص، فأصبحت حماس هي المقاومة وأصبحت المقاومة هي حماس!
ومنذ بدء اغتصاب أرض فلسطين حتى الآن لعبت الدبلوماسية في بعض الأحيان دورا إيجابيا، وفي أحيان أخرى دورا سلبيا في تاريخ القضية الفلسطينية، تراوح بين دفعها على المسار السياسي في اتجاه إقامة وطن للفلسطينيين على أرضهم، أو اغتيال فكرة الوطن وتحويلها إلى مجرد قضية لاجئين وظروف معيشة يومية. لكن خط الصمود والمقاومة ظل دائما وسيبقى هو العلامة البارزة في تاريخ الشعب الفلسطيني. وعلى مدار تاريخ القضية الفلسطينية كانت المقاومة هي المحرك الرئيسي للإرادة، والوسيلة الأساسية التي تعيدها للحياة وتدفعها على المسار السياسي. وقد جاءت حرب غزة، فأعادت إليها الحياة، بل جعلتها القضية الأولى على جدول أعمال العالم، متقدمة على حرب أوكرانيا، وعلى النزاعات في بحر الصين الجنوبي. وفي هذا السياق فإن قيادة حماس للمقاومة أقام تطابقا بين الاثنين؛ فأصبحت حماس هي المقاومة، وأصبحت المقاومة هي حماس، وذلك من منظور رؤية العالم كله لما يحدث في غزة. وتعني المقاومة بكل بساطة أن للقضية الفلسطينية شعبا على استعداد للتضحية بحياته من أجل أن تبقى الهوية الفلسطينية عالية مرفوعة الرأس لا تموت.
إن محاولات إسرائيل التي لم تتوقف إلى توسيع رقعة الحرب، تؤكد أنها تسعى للفكاك من مواجهة المقاومة إلى «أقلمة» أو حتى «تدويل» الحرب
عرفات حدد شروط الشرعية السياسية
في زيارته الأولى لطهران بعد انتصار الثورة على الشاه، تحدث ياسر عرفات عن شروط شرعية قيادة فتح للمقاومة، قائلا إن «فتح» هي العمود الفقري للثورة الفلسطينية؛ فالذي بدأ الكفاح المسلح هو «فتح»، وبعد هزيمة 1967 الكل انهار، والذي بدأ القتال مرة أخرى هو «فتح»، والذي يحمي الوحدة الوطنية هو «فتح» أيضا. أبو عمار قدم هنا الدليل القاطع على أن الشرعية السياسية ليست موروثة، وإنما تستند إلى أعمدة قوية فوق الأرض، وجذور راسخة عميقة وممتدة فيها. وإذا تأملنا كلمات أبو عمار فإنها تقرر بما لا يدع مجالا للشك أن الكفاح المسلح ضد الاحتلال هو مصدر الشرعية السياسية الفلسطينية، وهو الطريق إلى بناء مستقبل فلسطيني حقيقي على أرض فلسطينية، لا يكف العدو الصهيوني عن محاولة اغتصابها وتشريد شعبها وإبادة هويته. وأن الشرعية لا ترتبط فقط بمن بدأ الكفاح المسلح ولكنها تشترط لذلك شرطين. الأول هو الاستمرار فيه، والثاني هو المحافظة على الوحدة الوطنية الفلسطينية. وخلال حياته قدم الزعيم الفلسطيني نماذج حية من ممارسات «الديمقراطية الثورية» تسمح بالحوار في عملية اتخاذ القرار، والمسؤولية الكاملة عن طريقة تنفيذه، وضمان استمرار ثورة التحرير حتى النصر. شروط الشرعية السياسية الفلسطينية تبدأ من المقاومة وتستهدف تحقيق النصر، ولذلك فإن إسقاط بندقية المقاومة لا يتوافق مع شروط الشرعية السياسية. ويجب توخي الحذر الشديد بشأن المشاريع المطروحة في الوقت الحالي، فبعضها يستهدف في جوهره تصفية المقاومة، وتحويل القضية الفلسطينية من جديد إلى مجرد قضية إنسانية، تتعلق بتحسين ظروف المعيشة اليومية للفلسطينيين في الأجل القصير، وإبادة هويتهم القومية في الأجل الطويل. هذا التحوط ضد مشاريع التصفية لا يعني التقليل من أهمية الجانب الإنساني للقضية الفلسطينية، لكنه يعني وضع هذا الجانب ضمن الإطار العام للخيار السياسي وليس بديلا عنه، أو متجاوزا عليه بتقييده أو الحد من قوته، أي ألا يكون التقدم على الجانب الإنساني مشروطا بشروط سياسية، تلقي القضية الفلسطينية بعد عقود من الكفاح السياسي والعسكري إلى هاوية تحسين ظروف الحياة اليومية، التي يعيش تحتها الفلسطيني منزوع الهوية، محروما من المساواة في حقوق المواطنة.
استهلاك الوقت في المساومات
لا توجد استراتيجية فلسطينية واحدة لكيفية استمرار المواجهة الحالية مع إسرائيل، ولا توجد كذلك أي استراتيجية موحدة لكيفية التعامل مع غزة بعد الحرب، إداريا وأمنيا واقتصاديا. ورغم كل الضوضاء التي تثيرها إسرائيل بشأن «اليوم التالي» للحرب في غزة، فإنها أيضا لا تملك خطة واضحة، لا لكيفية استمرار الحرب، ولا للمرحلة التالية لها. وبعد فشلها في تحقيق أي هدف من أهداف الحرب، فإن حكومة نتنياهو تعمل على استهلاك الوقت في مساومات عقيمة، وتحاول في الوقت نفسه توجيه ضربات عسكرية جزئية إلى المقاومة، والعمل على تشديد الحصار عليها، بدعم أمريكي وتواطؤ من بعض الأطراف العربية، كذلك فإنها تمارس سياسة استفزازات عسكرية متعددة الجبهات، على أمل توريط الولايات المتحدة في حرب إقليمية واسعة النطاق، تغطي على حرب غزة، وتجعل للمواجهة الحالية أبعادا أخرى أشد تعقيدا، قد تساعدها على إعادة تقديم نفسها للرأي العام العالمي على أنها الضحية.
في الوقت نفسه فإن الإدارة الأمريكية الحالية قد ترحل مع بداية العام المقبل، ولا يوجد يقين قوي بشأن استمرارها. وتعاني الولايات المتحدة وليس الإدارة الحالية فقط من ضعف وتمزق داخلي، يحمل ملامح دخول القوة الأكبر في العالم إلى مرحلة أفول، على مرأى ومسمع من الداخل والخارج. وفي حال نجاح ترامب وسقوط بايدن، فإن ذلك لن ينقذها، وإنما سيعمق أزمتها، في تكرار ساخر لمشهد الاتحاد السوفييتي بعد فترة الركود السياسي التي رافقت حكم ليونيد بريجنيف، حيث فشل يوري أندروبوف ثم قسنطين تشيرنينكو في إنقاذ الاتحاد السوفييتي، حتى جاءت النهاية على يدي ميخائيل غورباتشوف، فانهارت القوة السوفيتية تماما وتغير تاريخ العالم. إن سيطرة كبار السن على قمة هرم السلطة في الولايات المتحدة حاليا تعيد إلى الذاكرة صورة مرحلة ضمور النظام السياسي السوفييتي، بصرف النظر عن الاختلاف الجذري بين النظامين السياسيين.
ونظرا لقرب إجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية، فإن الوضع السياسي القائم هناك يمنح نتنياهو فرصا كبيرة لاستغلال حاجة كل من المرشحين الديمقراطي والجمهوري لنفوذ اللوبي الصهيوني، للفوز في الانتخابات، وهو ما يعزز قوته في الحوار الأمريكي – الإسرائيلي. نحن نرى أن إسرائيل تحصل تقريبا على كل ما تطلبه من مساعدات دبلوماسية ومالية وعسكرية، بصرف النظر عن الخلافات المعلنة بين الجانبين، ومن المتوقع أن يستمر الأمر كذلك، سواء فاز ترامب أو فاز بايدن. وسوف يظل تطور الموقف في الشرق الأوسط مشروطا بتطور المقاومة واستمرار الصمود الفلسطيني. ويرتبط استمرار هذا الصمود بموقف الأطراف الفلسطينية المختلفة، وموقف القوى الإقليمية والدولية من ترتيبات إقامة نظام إقليمي يتوافق مع نتائج الحرب، التي لم تضع أوزارها بعد. إن محاولات إسرائيل التي لم تتوقف إلى توسيع رقعة الحرب، تؤكد أنها تسعى للفكاك من مواجهة المقاومة إلى «أقلمة» أو حتى «تدويل» الحرب.
الطريق من الحرب للتحرير
لا شرعية سياسية لقوى تسقط بندقية المقاومة من المعادلة السياسية في الكفاح من أجل إقامة الدولة الفلسطينية، لكن المحافظة على بندقية المقاومة يتطلب توفير شروط استمرارها، كما يتطلب الحفاظ على الوحدة الوطنية الفلسطينية. بغير هذه الشروط الثلاثة، الكفاح المسلح والقدرة على استمراره والوحدة الوطنية، فإن القوى السياسية الفلسطينية تفقد شرعيتها ومبررات وجودها. وإذا كان الشعب الفلسطيني قد أثبت قدرته على الصمود، فإن النخبة القيادية الفلسطينية يجب أن تبرهن على وعيها بشروط شرعية وجودها، وقدرتها على تحقيق حلم الدولة الفلسطينية، حلم الإرادة الفلسطينية المستقلة أيا كان الشكل النهائي الذي يتجسد فيه ويتجلى بقرار من الشعب الفلسطيني. ومن ثم فإن الحرب على المقاومة، سواء بواسطة أطراف فلسطينية أو عربية هي خطيئة لا تغتفر. كما أن تضييع الدم الفلسطيني بافتعال معارك خارج المعركة الرئيسية ضد إسرائيل هو خطيئة لا تغتفر. وليعلم الجميع أن غزة هي معركة فاصلة على الطريق وليست نهاية الحرب. وفي كل الأحوال فإن صمود الشعب الفلسطيني وقدرته على التحمل هي مفتاح النصر في المعركة وفي حرب الوجود الفلسطيني.
كاتب فلسطيني