المفارقة في قصص «سكين النحت» للكويتية أفراح الهندال

صدرت المجموعة القصصية «سكين النحت» للكويتية أفراح الهندال عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت عام 2023، في 143 صفحة، وتضمنت تسعا وثلاثين قصة، كانت معظمها قصصا قصيرة جدا. وتناولت موضوعات عديدة، وغلبت عليها الرمزية، وتعدد مستوى القراءة، ولا تسلم قيادها للقارئ بسهولة، وتميزت بلغتها الجميلة، وصورها الشعرية، وصورت هواجس الفرد، واشتغالاته الداخلية، ومعاناته النفسية، وتشظيه، وغربته عن الواقع الذي يعيش فيه.
وتتناول هذه المقالة المفارقة في بعض قصص المجموعة؛ إذ تعد المفارقة من فنيات القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا، وتمنح القصة بعدا جماليا، كما أنها ترفع من مستوى الدهشة، وتلعب دورا مؤثرا في جعل القصة أكثر عمقا، بالإضافة إلى أنها تثير شهية القارئ للتساؤل والمقارنة واستبطان المعنى المقصود من وراء المفارقة.

الأم والجدة

في قصة «باب الأرق» تقول عن طفلها «كان ينام في حجري» ولما كبر وكبرت، وابتعد، وتثاقلت خطاها، زارها بعد غياب، تقول: «أحاطني بقوة بين ذراعيه، انهار في النحيب، تكومت في صدره». إنها دورة الحياة وتكاملها بين الأجيال، وخاصة الأم، تحضننا وتصبر علينا صغارا، ويتطلب البر أن نحضنها ونصبر عليها كبارا، بعد أن تهاجمها الشيخوخة وأسلحتها من مرض ووهن وعجز. وهذا ليس من باب الدَيْن، بل من الحب والوفاء والبر والإحسان. والابن البار أنجع وأسرع دواء لأمراض الأم، كما تشير القصة.
كانت الجدة ترحب بالجميع في قصة «أحياء.. أموات» ولا تغلق باب غرفتها، لكنها رفضت أي زيارة لها في المستشفى بعد إصابتها الخطيرة، وأغلقت باب غرفتها، وكانت تتمتم بكلمات في وحدتها، وتبرر رفضها «سمعتهم بما يكفي، وحان دور الآخرين».
الجدة في هذه القصة بين الحياة والموت، وأصبح الأحياء أمواتا بالنسبة لها، والأموات أحياء؛ فهي – كما يبدو- ترى أحبتها الذين سبقوها إلى الموت من أم وأب وزوج وأجداد وغيرهم، وترى مستقبلها وحياتها المقبلة معهم، أما من كانت بمعيتهم، فقد انتهت حياتها معهم، وانقطعت الصلة بهم، فكأنهم أموات في نظرها. وهي قصة تثير قضية وجودية حول حقيقة الموت والحياة، ومن الميت حقا؟ وهل الموت نهاية أم بداية لحياة أخرى مختلفة؟ كما أن القصة تشير إلى ضرورة تفهم ظروف كبار السن، خاصة في مرضهم، واختلاف حاجاتهم واهتماماتهم وتطلعاتهم ومقاييسهم، وأن يقابل كل تصرف منهم بتسامح أيا كان شاذا أو مستغربا.

جرذان وقطط

يحذرهم من الجرذان التي تحفر قريتهم في قصة «الناعبة» لكن الشيخ يقرأ عليه ليعالجه من هلوساته وأوهامه. وفي الليل، يدخل الشيخ مخزنا للكتب، فيتبعه، يدفع الباب المنهك، يدخل وبصيص ضوء واهن ودخان يملأ المكان، فيرى الشيخ في هيئة غريبة، ولما يخاطبه بأنه يعرف سره «التفت الشيخ مرعوبا، بيده كتاب صغير، يقرضُ أوراقا ملبدة بقاطعين كبيرين». كان الشيخ يحاول أن يكتم السر حتى يستحكم الشر، ولم يكن يخطر في بال أحد أنه هو الشر بعينه، وأنه كبير الجرذان التي تغزو القرية وتحفر فيها لتدمرها. وهذه القصة ذات رمزية عالية، فالشيخ هنا إشارة إلى المشعوذ أو الشيخ الذي يتاجر بالدين أو يتخفى برداء الدين، أو الذين يتسترون بالمبادئ أيا كانت، وهؤلاء خطرهم عظيم؛ لأن حيلهم تنطلي على كثير من الناس، ولا ينكشفون إلا بعد أن تزكم روائحهم النتنة، وتفيض فتنهم، وتؤكد القصة أهمية العلم في كشف حقيقة هؤلاء قبل فوات الأوان.
في قصة «قلعة العنكبوت» سخرية واستهجان؛ فالقطة السوداء كانت دليلهم إلى القلعة المهجورة التي تعاني من الإهمال، ثم اختفت القطة، وقبل خروجهم من البوابة، باغتتهم قافزة من برميل كبير، سجلوا إعجابهم بالقلعة والقائمين عليها، يقول أحدهم أنه يجزم أن القطة قالت: «لستُ وحدي من يبحث في النفايات».
المعنى المقصود في هذه القصة متوارٍ؛ فهل تقصد القلعة بالنفايات أم الإهمال الذي طالها؟ أيا كان الأمر، فهناك من يرى أن الانشغال بالتاريخ البائد وآثاره هنا وهناك نوع من الهذيان واستهلاك الوقت والجهد والمال دون طائل؛ فما الفائدة من التمسك بآثار تشهد على قوم بادوا، وليس لنا من الأمر شيء؟ إن الاهتمام بالآثار جميل، لكن يجب أن لا يكون على حساب الحاضر والمستقبل، والعودة للماضي ينبغي أن تكون للعبرة لا للعيش فيه من جديد!

السجن والمسرح

في قصة «وصية الخروج» وبعد انتهاء المحاكمة، «حين أقفلت البوابة خلفه؛ ارتطم بمشهد الناس المساقين كقطيع بتهم تهدد الأمن العام: «الإضراب عن الموت» «سرقة متعلقات معيشة من الحدائق والبيوت والمدارس» «كسر حظر الخروج من المقابر المخصصة لأمثالهم من غير المسجلين في قيد الحياة». فاختلط عليه الأمر «لم يعرف ما إذا كان خرج أم دخل السجن للتو!»
تثير هذه القصة تساؤلات عميقة ومؤلمة؛ عن حقيقة التهم والسجن، ومن المجرم حقا؟ ومن المسجون فعلا؟ هل من يتشبث بالحياة مجرم، ومن يسرق الحياة بريء؟ ما الميزان الذي يحكم؟ وهل ثمة عدالة منصفة؟ أم هي عدالة الظالم وقوانينه؟ ثمة ضبابية حقيقية وتيه وضياع للبوصلة وحيرة تأخذ بتلابيب كل إنسان نقي نظيف صادق عن حقيقة ما يجري وكيف يجري وإلى متى؟ وقريبا من هذه القصة قصة «جوقة الجان» حيث تختصر جملة المرشد السياحي لزيارة حي شعبي كل الحكاية: «تخيلوا أنكم جزء من الجمهور؛ لأن ما سيحدث أمامكم قد يبدو حقيقيا.. لكنه ليس كذلك». لأن واقع الأحياء الشعبية البائسة مثير للأسى والألم والاستغراب، ويكاد لا يصدقه من يزوره من طبقات أعلى أو من بيئات مختلفة، حتى ليختلط الأمر؛ هل هذا واقع يُعاش أم مشاهد مسرحية؟ وفي العموم، كلنا مجرد ممثلين على مسرح الحياة، نفعل ما يُراد منا أن نفعل لا ما نريد أن نفعل، والويل لمن يخرج عن النص.

دموع وحروب

ثم مفارقة مؤلمة في قصة «بلل»؛ إذ «نجح الكي في معالجة تبوله الليلي، لكن سريره ما زال يبتل… منذ ذلك اليوم، لم يتوقف تساقط الدموع من عينيه». فالبلل ما زال مستمرا، لكن اختلف مصدره فقط، لكن، أيهما أفضل للطفل؛ بلل البول أم بلل الدموع؟ بلل البول عرض مؤقت يتعالج بطرق شتى، لكن بلل الدموع ألم دائم، وجرح غائر، وربما يعني ذلك عند الطفل عقابا متعمدا، وتخليا، وخسارة للحنان. وتتناص هذه القصة مع المثل الشعبي «جاء يكحلها عماها!».
في قصة «ألعاب نارية» تذكرها الألعاب النارية احتفالا بالعام الجديد، بجحيم الحرب التي فجعت بها ذات سنة، وما زالت انفجاراتها تدوي في رأسها كلما سمعت صوت الألعاب النارية، على الرغم من مرور سنوات طويلة؛ فما حدث صدمة حطمت الكثير، وسرقت طفولتها، وبددت كثيرا من قناعاتها. فالأحداث المؤلمة، والتصرفات القاسية لا تزول، بل تبقى عالقة تتردد في تلافيف الذاكرة وأعماق القلب، تحتاج فقط إلى مثير صغير لتعود إلى السطح بعنف كأنها حدثت للتو، وإذا كان سببها الأقربون، كان وقعها أعظم، وجرحها أعمق.
وبعد؛ إن «سكين النحت» لأفراح الهندال، مجموعة قصصية ناضجة، وكان لافتا فيها الإهداء الوجداني المؤثر للأم والأب، وكذلك الاقتباسات والنصوص الموازية التي تصدرت معظم قصص المجموعة وتتقاطع معها، بالإضافة إلى عناوين القصص ذات الدلالات العميقة. وقصص المجموعة بشكل عام تثير التساؤل، وتستدعي التأمل والتفكر، وإعادة القراءة مرات ومرات، وتبشر المجموعة بقاصة مبدعة متمكنة تعد بالكثير في المستقبل القريب.

كاتب فلسطيني أردني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية