المحلة الكبرى المصرية: وقود الثورات وفخر الصناعات

حسام عبد البصير
حجم الخط
0

القاهرة ـ «القدس العربي»: يعرفها الأجداد باعتبارها فخر الصناعة المصرية، والجدات بوصفها المكان الأنسب لاقتناء الملابس القطنية الفاخرة التي أهلتها لتكون عنوانا للعلامة المسجلة الشهيرة التي تظهر في العديد من الأفلام الأمريكية “قطن مصري” بينما يعتبرها الآباء من جيل الخمسينات والستينات المدينة التي مثلت وقود الثورات، إذ شهدت عبر قلاعها الصناعية الكثير من المظاهرات في زمن السادات ومبارك، وامتدت لاحقاً إلى العديد من المناسبات حتى انتهى بها الحال باعتبارها أحد أبرز الأذرع الثورية عند الهتاف بسقوط النظام غداة ثورة الخامس والعشرين من يناير، وظلت كذلك تمثل إحدى الأدوات المناوئة للتطبيع مع الكيان الصهيوني.
المحلة الكبرى، أيقونة المصريين في عالم صناعة الأزياء الراقية وتتبع محافظة الغربية إدارياً، وهي أحد أبرز مدن محافظات الدلتا، وتعد من أكبر مدنها ولكونها تزخر بقلاع صناعية ضخمة فهي الأبرز في مدن مصر يطلق عليها “بلد الأيد الشغالة” لكثرة ما كان فيها من مصانع وورش خاصة في مجال الغزل والنسيج والعديد من المهن الأخرى. إلا أن البطالة عرفت الطريق إليها خلال السنوات الماضية بسبب تزايد نسبة السكان وإغلاق العديد من المصانع.

نبات التيل

اشتهرت المحلة الكبرى في عهد الفراعنة باسم ديدوسيا، وتعني نبات التيل، وظلت مركزاً حضاريا في قلب الدلتا حتى العصر القبطي والروماني، فقد نعتت بمحلة دقلا وهو نفس الاسم الفرعوني ولكن باللغة اللاتينية، وظلت مركزاً لصناعة النسيج والملابس حتى عهد الفتح العربي لمصر حين أقاموا على تل ديدوسيا القريب من المدينة وأطلقوا على المدينة اسم محلة الكبرى. كانت تعرف بالوزارة الصغرى لكونها إحدى مناطق النفوذ والحكم وملتقى إقامة الأمراء والشيوخ وعدلت بعد ذلك إلى محلة الكبرى، وفي عهد الناصر قلاوون أصبحت عاصمة لإقليم الغربية سنة 715هـ 1320 الذي كان يضم حينئذ محافظة كفر الشيخ والأجزاء الغربية من محافظة الدقهلية، وفي عهد محمد علي ضمت إليها محافظة المنوفية وعرفت بمديرية روضة البحرين وأصبحت عاصمة لهذه المديرية الكبيرة التي كانت وقتها تستحوذ على كامل الدلتا ماعدا محافظة دمياط وظلت هكذا حتى سنة 1836 ونقلت العاصمة بعد ما يزيد على خمسة قرون إلى طنطا، وكانت المحلة مدينة ليس لها زمام أي ليس لها أي أرض زراعية وكانت قائمة بذاتها حتى سنة 1260 هـ 1844 ثم اضيف إليها الزمام الحالي حتى وصلت مساحتها إلى 105.749 فدان أي أكثر من 444 كيلو مترا مربعا لتصبح كبرى مدن محافظة الغربية وتشغل حوالي ربع مساحة المحافظة.
يوجد فيها أكبر مصنع للغزل والنسيج في العالم العربي والشرق الأوسط وهو مصنع شركة مصر للغزل والنسيج، والذي كان يعمل فيه حوالي 27 ألف عامل وموظف. تبعد المحلة عن القاهرة حوالي 110 كم وعن الإسكندرية حوالي 120 كم، وهي من مدن دلتا النيل أي أنّها تقع بين فرع دمياط وفرع رشيد، ويتوسط موقعها المسافة بين كل من المنصورة وكفر الشيخ وطنطا حيث تبعد نحو 25 كم من كل من تلك المدن التي تمثل كل علامة مضيئة في سماء الدلتا.
للمحلة الكبرى تاريخ ضارب في الجذور إذ كانت تعرف باسم ديدوسيا خلال العصر الروماني، كما كانت تعرف باسم دكالا في السجلات القبطية التي ما زالت بحوزة الجهات المعنية. وكانت تعد مركزاً حضارياً في قلب الدلتا حتى العصر القبطي والروماني حيث سميت محلة دقلا وهو نفس الاسم الفرعوني ولكن اطلق عليها المؤرخون محلة الكبراء.
ارتبط اسم المحلة بسمنود وهي أقرب مدن محافظة الغربية للمحلة بمسافة تقدر بنحو 5 كيلومترات وارتبطت المدينتان طوال تاريخهما القديم والحديث عضوياً واجتماعياً وكذلك في كثير من الأعراف والتقاليد. فقبل دخول العرب مصر كانت المحلة تعد من أعمال سمنود وعند قدوم العرب دخل زمام سمنود الحكم إلى المحلة بعد جلاء الحملة الفرنسية، ومن جانبه قرر الخديوي عباس الثاني جعل المحلة قرية تابعة لسمنود ثم جعل سمنود قرية حتى أن المدينتين تجمعهما قواسم مشتركة، فسمنود تاريخها يرجع لعصور الأسر الفرعونية والمحلة يرجع ماضيها إلى العصور الرومانية والعربية. تعد المحلة الكبرى أكبر مدن محافظة الغربية وفي دلتا النيل، ويتجاوز عدد سكانها نصف مليون نسمة. وتتميز بكونها قلعة من قلاع المدن الصناعية، وتقع في وسط دلتا النيل على الضفة الغربية لفرع دمياط. تشتهر في المقام الأول بكونها تاج صناعة المنسوجات، ومن أبرز وحداتها شركة مصر للغزل والنسيج التي تضم قرابة حوالي 27000 كادر مهني وهي شركة عريقة، أسسها طلعت حرب أبرز رموز الصناعة والاقتصاد من جيل الآباء في الدولة المصرية الحديثة.

خوخة اليهود

لكونها أحد أهم المدن المصرية لم يهملها المؤرخون. ففي كتاب “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” للشريف الادريسي 1160 ورد ذكر مدينة المحلة الكبرى باعتبارها كبيرة وذات أسواق عامرة وتجارات قائمة وخبرات شاملة، بينما ورد في كتاب “صبح الأعشى” للقلقشندي 1411 ما يلي: أنها مدينة عظيمة الشأن جليلة المقدار رائعة المنظر حسنة البناء، كثيرة المساكن وذات جوامع وأسواق وحمامات. أما في كتاب “الخطط التوفيقية” لعلي باشا مبارك 1888 فجاء: المحلة الكبرى هي قصبة كورة الغربية وأكبر مدنها بل لا تتجاوزها في المساحة في الكبر من مدن الوجه البحري إلا الاسكندرية وموقعها على ترعة الملاح فرع بحر شبين ويسكنها نحو نصف مليون نسمة ومساحة ما تشغله من السكن 280 فدان وأكثر أبنيتها بالآجر المتين على طبقة أو طبقتين أو ثلاث أو أربع وبها قصور مشيدة بالبياض النفيس ومناظر حسنة بشبابيك الخرط والزجاج ومفروشة بالبلاط والرخام وقيساريات وحوانيت وخانات وأسواق دائمة تباع فيها الأنواع المختلفة من مأكل وملبس وغير ذلك، وبها ديوان المركز والضبطية والبوسطة ومحكمة شرعية كبرى من 11 محكمة في مديرية الغربية كلها مأذونة بتحرير المبايعات والاسقاطات والرهونات ونحو ذلك، وفيها مدينة لتعليم اللغات ونحو أربعين مسجدا غير الزوايا الصغيرة وأكثرها عامر مقام الشعائر والجمعة والجماعة، وفيها 24 سبيلا لشرب الآدميين والبهائم بعضها تابع للمساجد والآخر مستقل في داخل البلد وخارجها وفيها نحو 25 مكتبا لتعليم أولاد المسلمين القراءة والكتابة وفيها مكاتب لأطفال النصارى، وبيعة لليهود بحارة جامع النصر العمري تعرف بخوخة اليهود مبنية قبل الإسلام ورممت سنة 1280هـ وهي على طبقتين ويسكنها بعض اليهود وقد بنوا لها حماما فوق تل بجوارها وجعلوه حلزونيا على ارتفاع 13.82 متر وفيها كنيسة للأقباط بسويقة النصارى وهي قديمة وعلى دورين. وفي كتاب “تحفة النظار في عجائب الأسفار” لابن بطوطة 1354 أسبغ الرحالة الشهير مزيدا من التكريم لها مؤكداً أنها مدينة جليلة المقدار حسنة الآثار كثير أهلها جامع بالمحاسن شملها ولها قاضي قضاة ووالي ولاة. يعمل أغلب الأهالي بصناعة الغزل والنسيج التي ورثها الكثير منهم عن آبائهم حيث تنتشر فيها مصانع الغزل والنسيج فضلاً عن ثالث أكبر شركة غزل ونسيج في العالم شركة مصر للغزل والنسيج ويعمل أيضاً كم كبير من سكانها في العديد من الحرف فضلاً عن المجالات العلمية والتعليمية، حيث تنتشر المدارس في جميع أحياء المدينة شأن معظم المحافظات كما يشتغل أهلها بالتجارة والاستثمار والتسويق حيث المحلة تعد من المراكز التجارية الكبرى في الوجه البحري .كما ينتشر في المحلة الكبرى العديد من الورش الأهلية ومصانع إنتاج الجبن ومختلف منتجات الألبان والحلوى وتعد قبلة تعليمية بسبب العديد من المدارس بجميع أنواعها من ابتدائية وإعدادية وثانوية، ويتركز معظم اقتصاد مدينة المحلة في مجال الغزل والنسيج والتجهيز والصباغة والملابس الجاهزة فضلاً عن وجود عدد كبير من الأنشطة الصناعية والتجارية العديدة مثل صناعة الزيوت والصابون والإلكترونيات والسجاد والطوب والصناعات الغذائية. وتستهلك شركة مصر من القطن حوالي مليون قنطار أو ما يعادل كل إنتاج مصر من القطن هذا غير باقي الشركات العاملة في مجال الغزل. يوجد بالمحلة الكبرى عدد من المحالج ومهمتها إعداد محصول القطن للصناعة والغزل وتحتل المحالج مناطق مميزة بأهم بقاع المدينة.

مصانع ومساجد

لا خلاف بين المراقبين تقريباً من أن مدينة المحلة الكبرى تعد من أبرز مدن مصر في مجال النضال السياسي والعمالي وذلك لأسباب في مقدمتها تردي أحوال العمال منذ العقود الماضية، كما ظلت الأوضاع القاسية للفئات الأقل دخلاً تمثل الشرارة التي توقد الضمير العمالي. ضرب المدينة البوار والكساد نتيجة سياسات الانفتاح الاقتصادي التي دشنها الرئيس الراحل أنور السادات واقتفى أثره من بعده خلفه مبارك حيث تم بيع وتصفية العديد من شركات القطاع العام ومن ثم تدهورت صناعة النسيج نتيجة الظروف والعقبات العديدة الخاصة بسياسة وزارة الزراعة التي أسفرت عن فقد القطن المصري مكانته العالمية بعد التخلي عن زراعة القطن طويل التيلة الذي كانت تتميز به مصر على بلدان العالم فضلاً عن الاذعان لسياسات صندوق النقد الدولي ونجم عن ذلك تعرض صناعة النسيج لخسائر ضخمة أسفرت عن انتشار البطالة بين الشباب وانتشار العديد من الأمراض الاجتماعية نتيجة للفقر الذي خيم بجناحيه على كثير من قرى ومدن الدلتا منذ عهد السادات وخلفه مبارك ونتيجة لمخاوف الحكومات المتعاقبة من الوعي العمالي المتزايد قامت بإجراءات أمنية ضد العديد من القيادات العمالية التي تتسم بالوعي والاهتمام بالقضايا الوطنية من مصانع المحلة ومؤسساتها وأيضا تشديد القبضة الأمنية ضد أي تحرك سياسي حتى وان كان سلميا وقانونيا فاستطاعت الأجهزة الأمنية القضاء على العديد من أشكال تواجد الأحزاب الشرعية وتضييق الخناق على القوى السياسية الشريفة.
كما تتميز مدينة المحلة كونها ثالث أكبر مدينة بها آثار إسلامية ومن أبرز معالمها عدد من المساجد والقباب والمنشآت الأثرية.
ومنذ فجر الإسلام ومع فتح مصر تدفق العديد من الصحابة ومن ثم السلف الصالح على القاهرة وبعضهم زار المحلة.

كنائس ومعابد

تحتوي المحلة على عدد من الكنائس ذات الطبيعة الأثرية كما توجد فيها عدد من المعالم اليهودية أبرزها المعبد اليهودي سوق اللبن تم بناؤه قبل دخول الإسلام لمصر ويعرف بخوخة اليهود بالإضافة لكنيس يهودي بمنطقة السبع بنات تم تحويله إلى كنيسة كاثوليكية فضلاً عن مقابر اليهود الكائن بشارع الجمهورية والذي تم تحويله لمدفن لأتباع المذهب المسيحي الكاثوليكي.
ومن معالم المدينة برج ساعة شركة مصر للغزل والنسج وكان يعد حتى أعوام قلائل ثاني أعلى برج في العالم، وشركة مصر للغزل والنسيج، كما تشتهر المدينة بعدد من الأندية الرياضية.
ومن بين معالمها قرية الميريلاند السياحية ومبنى مكتبة مجلس المدينة والمسرح المكشوف بالحديقة الثقافية بميدان الشون ومسرح غزل المحلة، كما أن للمحلة الكبرى كذلك دور بارز في الأنشطة الثقافية إذ تزخر بالكثير من دور النشر.
ووصفها علي باشا مبارك قائلاً: إنها غاية في حسن الموقع وطيب الهواء ولأن للبقاع تأثير في الطباع فهي منبع كثير من الأفاضل ومنشأ للعلماء الجهابذة ويتميز أهلها بالتدين الشديد والخصال الحسنة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية