اللغة والدولة

اللغة هي الواجهة الأولى للثقافة والدولة على مدى العصور ولذلك فهي عادة شيء يفرض من قبل الدولة لفرض هيمنتها وحماية مصالحها والحفاظ على تماسكها. واحدى الوسائل المستعملة لهذا الغرض هي المؤسسة الدينية وخاصة في البلدان التي تمتاز بدور هام لهذه المؤسسة في الحياة اليومية كما هو الحال في اوروبا التي لعبت المؤسسة الدينية دورا هاما في تاريخها يكاد يجعلها دولة قائمة بذاتها.
الجانب السياسي للغة من الاهمية بمكان، انها اصبحت هوية يفتخر بها الناس بشكل او بآخر ويدعون الى الانتماء لها .وكانت هذه البذور الاولى لتكوين الشعور القومي والوطني. وتلعب الدولة في كل هذا دورا محوريا. فهي المؤسسة التي تقرر ثقافة البلد وتكوين مجتمعه. وسنأخذ في هذا المقال اربعة أمثلة للغات يفتخر الناطقون بها سواء اكانت لغتهم الأم أم لغة تعلموها وكانت صفة للشعور القومي ونبين هنا كيفية انتشارها:-
اللغة الأنكليزية:-
لم تكن اللغة الأنكليزية لغة الحكومة والبلاط في انكلترا دائما، فقد كان هذا من نصيب اللغة الفرنسية لفترة طويلة. ففي عام 1066 احتل النورمانديون الفرنسيون انكلترا ليستولوا على مقاليد الحكم وتصبح الفرنسية اللغة الرسمية للبلاط والحكومة والمحاكم في انكلترا وتصبح اللغة الانكليزية لغة الشارع والطبقات الواطئة بلهجات متعددة ومختلفة عن بعضها البعض الى درجة تجعل لهجة سكان منطقة ما صعبة الفهم بالنسبة للآخرين وقد سهل هذا ندرة التعليم وغياب لغة فصحى التي من الممكن استعمالها كعيار موحد.
ان دخول النورمانديين كان بداية حقبة اساسية في تاريخ انكلترا ولغتها. فحتى الملك الأنكليزي الشهير ريتشارد قلب الأسد الذي شارك في الحروب الصليبية ويعتبره الأعلام الانكليزي رمز الوطنية الانكليزية وبداية دخول انكلترا في عالم السياسة الدولية لم يكن يعرف كلمة واحدة من اللغة الانكليزية. وقد استمر الحال على هذا المنوال حتى بداية القرن السابع عشر عندما وجد ملك بريطانيا جيمس الأول نفسه في مشكلة سياسية، فعدو انكلترا الرئيسي كان فرنسا وفي نفس الوقت كانت لغة البلاط الانكليزي الفرنسية فأراد ان يبتعد عن رمز الثقافة والتأثير الفرنسيين وكان الحل تغيير اللغة الرسمية وفرض اللغة المحلية الانكليزية .وطالما ان الكنيسة كانت تلعب دورا اساسيا في التعليم والحياة العامة فقد امر الملك الانكليزي اشهر متعلمي عهده بترجمة الكتاب المقدس الى لغة لندن وهي لهجة أنكليزية ثم فرضت هذه النسخة المترجمة على الكنيسة و بالتالي المدارس وجميع المعاملات الحكومية. وهكذا ظهرت اللغة الأنكليزية بشكل عيار موحد ومع انتشار التعليم اخذت اللهجات الأنكليزية الأخرى واللغات الأخرى في بريطانيا تضعف وتصبح تلك الترجمة اساس اللغة الرسمية الحالية. وبذلك تمت الخطوة الاولى في اتجاه تأسيس القومية الانكليزية التي اصبحت مضادة للقومية الفرنسية وتكون بهذا شكلا آخر للعداء بين فرنسا وانكلترا فقد كان هناك سبب قبل ذلك وهو الدين، فقد تبع البلاط الانكليزي المذهب البروتستانتي بينما تبع البلاط الفرنسي المذهب الكاثوليكي وجميع هذه الأسباب اخفت حقيقة الخلاف بين البلدين وهو تناقض المصالح بين الطبقات الحاكمة في البلدين.
اللغة الفرنسية:-
اما اللغة الفرنسية، فمن اصول متواضعة حيث تعود اصولها الى لهجة محلية لاتينية كانت تستعملها الطبقات غير المتعلمة من سكان باريس اثناء الاحتلال الروماني لفرنسا وهي في الواقع لغة مستوردة. فقبل الاحتلال الروماني كانت اللغة السلتية هي اللغة المستعملة في فرنسا آنذاك، وهي لغة قبائل الغال المحلية التي قاومت الرومان الذين احتلوا وحكموا فرنسا بقسوة بالغة. وبعد خروج الرومان من فرنسا تكونت طبقة حاكمة محلية في باريس وكانت تنطق الفرنسية. وعندما اصبحت باريس عاصمة فرنسا فرضتها على سكان البلد الذين كانوا يتكلمون لغات بعيدة جدا عن الفرنسية ولا تزال بعض اللغات القديمة في فرنسا حية حتى الآن. وكما كان الحال بالنسبة الى الغة الانكليزية فقد ادى انتشار اللغة الفرنسية وبتشجيع من الحكومة الى تكون الشعور القومي الفرنسي. واصبح من اهداف الحكومة الفرنسية نشر هذه اللغة كوسيلة لنشر نفوذها.
اللغة الأيطالية:-
لم تكن اللغة الأيطالية التي نعرفها اليوم سوى لغة 2.5 ‘ من الشعب الأيطالي عندما توحدت أيطاليا عام 1861 (بمساعدة فرنسية). فاللغة الأيطالية الحديثة تعود اصولها الى شوارع فلورنسا حيث تكلمها السكان غير المتعلمين كلهجة لاتينية وكانت كل منطقة في أيطاليا تمتاز بلهجة يجدها الآخرون صعبة الفهم، بل ان لغات ليست لها علاقة باللاتينية كانت ولا تزال موجودة في أيطاليا. الذي حدث هو ان مدينة فلورنسا كانت الاولى في البروز في الحياة الثقافية. فمثلا كان اشهر كاتب أيطالي منها وهو دانتي الذي كتب كتابه الشهير ‘الكوميديا الالهية’ بلهجة فلورنسا بين 1308 و1321 وقد كتب الكتاب بلغة فلورنسا اي لغته المحلية. وقد استمرت الفوضى اللغوية في أيطاليا حتى قيام الوحدة الأيطالية حيث قررت الحكومة الأيطالية اعتماد لغة فلورنسا لتأسيس بلدا حقيقيا بمركز يسيطر على جميع انحاء البلد ففرضت الحكومة اللغة الايطالية في التعليم ومعاملات الدولة وكانت هذه مهمة في غاية الصعوبة فمثلا عندما ارسلت الحكومة الأيطالية مدرسين الى صقلية لأدخال اللغة الأيطالية هناك أعتقد المحليون بأن هؤلاء المدرسين أنكليز وما يدرسونه هو اللغة الانكليزية فسموهم المدرسين الانكليز.
اللغة الألمانية:-
لم تكن هناك لغة المانية موحدة يفهمها الجميع مثل اللغة العربية الفصحى، فقد كانت هنالك قبائل تتكلم لهجات المانية متباعدة عن بعضها البعض الى درجة كبيرة حتى ان بعضها تطور ليصبح لغة غير المانية، مثل اللغة الانكليزية. وقد حافظ على هذا الوضع كون المانيا مقسمة الى ولايات متعددة مستقلة وحكومة كل ولاية لها سياستها الخاصة في اللغة والدين. وتغير الموقف في بداية القرن السادس عشر عندما قام مارتن لوثر بترجمة الكتاب المقدس من اللاتينية الى لهجة المانية محلية من منطقة ساكسوني ويؤسس المذهب البروتستانتي واعتماد الولايات البروتستانتية هذه اللغة كلغة رسمية لتصبح اللغة الألمانية الفصحى حيث فرضت في التعليم والمعاملات الرسمية وهي اللغة الالمانية التي نعرفها الآن.

*كاتب عراقي فرانكفورت

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية