الكيانات الوظيفية… ومصير الدول الراسخة!

استثمار المسألة اليهودية والتجارة فيها قديم، ومع مرور الزمن تتجدد رغبات بين أوساط محلية وإقليمية عدة للوصول لمعالجة متوازنة لتلك المسألة المزمنة، فما زالت مصدر قلق للعالم، وبدا الاستثمار فيها مربحا، وتستغله قوى الهيمنة، وامتداداتها بين المغامرين، والمقامرين والمتعصبين وسماسرة السياسة والدين، وهي تجارة تشهد رواجا وحضورا بين ضيقي الأفق، وموضوعة على جداول أعمال «الشرعية الدولية»؛ في الأمم المتحدة والمحافل الإقليمية والدولية، وهذه فرصة للتذكير بمحاولات سبقت قرار تقسيم فلسطين، ونكبة 1948 واستمرار القوات الصهيونية في العدوان ومصادرة الأراضي الفلسطينية والعربية؛ حتى لو كانت خارج كوكب الأرض.
وتخصصت الآلة العسكرية الصهيونية في الاستيلاء والسطو على ما هو أكبر من الحدود الواردة في قرار التقسيم، ومع ذلك ظهرت محاولتان تاريخيتان لمعالجة «المسألة اليهودية»؛ الأولى قام بها مردخاي مانويل نواه (نوح) وأقام «دولة أرارات في نيويورك» يتمتع فيها اليهود باستقلال وحكم ذاتي، وكان ذلك قبل النكبة، وفي زمن سابق على قيام الدولة الصهيونية بـ123 عاما، ولم تكن محاولة يتيمة، وتكررت بعدها بسنوات في روسيا بقرار الزعيم الروسي جوزيف ستالين؛ سابق على قيام الدولة الصهيونية بأربعة وعشرين عاما، وتقول معلومات أوردها موقع «إيش دوت كوم» اليهودي، وقبل ظهور ثيودور هيرتزل مؤسس الحركة الصهيونية بنحو قرن؛ وسبق لـ«موردخاي مانويل نواه (نوح) إقامة «دولة أرارات» في بَفَلُو بولاية نيويورك عام 1825، ونواه (نوح) مولود في فيلادلفيا عام 1785، وعمل في أكثر من وظيفة؛ في الشرطة والجيش والصحافة والتأليف المسرحي، والعمل الدبلوماسي.
وحين بلغ موردخاي الثامنة والعشرين من عمره اختاره الرئيس الأمريكي جيمس مونرو قنصلا في تونس. مكلفا بالعمل على إطلاق سراح الرهائن الأمريكيين الأُسِرى، ونفذ المطلوب، ودفع فدية كبيرة، وهو ما اعترض عليه رؤساؤه. ولما سئل عن سبب اللجوء لذلك الحل، أجاب: «إن عقيدته اليهودية تنص على فداء الأسرى». وانهى بذلك عمله الدبلوماسي، وفي عام 1820 فكر نواه (نوح) في إقامة ملاذ آمن ليهود العالم على الأرض الأمريكية؛ اشترى أرضا قرب شلالات نياغرا، وأقام عليها مدينة، ودعا الهنود الحمر للانتقال إليها؛ معتقدا أنهم من سلالة إسرائيلية مفقودة. وبعد خمس سنوات، اختار نواه (نوح) اسم «دولة أرارات»؛ تخليدا لذكرى جبل أرارات، الذي رست عليه سفينة نوح؛ حسب ما ورد في العهد القديم (التوراةَ)
جاءت بعد ذلك مبادرة الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين، وبدت مبادرة جادة، واختار منطقة «بيروبيدجان» التابعة للاتحاد السوفييتي السابق؛ في شرق روسيا، ومركز إداري لمنطقة «أوبلاست» للحكم الذاتي اليهودي، وبدت جدية الزعيم السوفييتي، من تأسيس موطن وملاذ آمن عام 1934؛ يبعد عن العاصمة الروسية بثمانية آلاف كيلومتر شرقا، وقرب حدود الصين، وأشارت مراسلة هيئة البث البريطانية (بي بي سي) إلى أن ستالين أقام أول وطن رسمي لليهود. وتوافد إليه مستوطنون يهود من سنة 1928؛ قبل عشرين عاما من ولادة الدولة الصهيونية، وقبل انتزاع فلسطين من أيدي أهلها، وأضحت «بيروبيدجان» وطنا يهوديا روسيا؛ اعتمد لغة «اليديش» لغة رسمية.
وصل عدد اليهود في «بيروبيدجان» عام 1939 نحو 18 ألف نسمة، وحسب مصادر غربية؛ بعد عشر سنوات من إقامة دولة أرارات، لاحق ستالين الثقافة اليهودية، وأعدم رئيس حكومة المنطقة، وأحرق كتبا طُبعت باليديش، وأغلق معابد يهودية بالمنطقة، التي تقع جنوب شرق روسيا، وعلى مسافة ثمانية آلاف كيلومتر شرقي العاصمة موسكو، وقرب حدود الصين، وتقول مراسلة «بي بي سي» كيت غولدبرغ إن ستالين أقام أول وطن رسمي لليهود، وتوافد إليه مستوطنون يهود من عام 1928؛ ذلك قبل عشرين عاما من الحرب العربية اليهودية، لإقامة وطن قومي لليهود السوفييت، وأضحت «اليديش اللغة الرسمية» لدولة أرارات. وفي عام 1939 وصل عدد يهود أرارات نحو 18 ألف نسمة.

القضية أن شعباً من المهاجرين من بولندا وروسيا وألمانيا يريدون أن يبنوا وطنا في بلد غريب‏.‏ وهم يرغبون في ذلك تحقيقاً لحلم وتنفيذاً لوعد إلهي للعودة إلى أرض الميعاد

وبعد عشر سنوات من إقامة «أرارات» قمع ستالين الثقافة اليهودية، وأعدم رئيس حكومة أرارات، وأحرق كتبا بلغة اليديش، وأغلق معابد يهودية فيها، وعلى الضفة الأخرى نجد الولايات المتحدة ـ تحقق حلم «البيورتان الأنجلوساكون»؛ تخلصوا من المجتمع القديم، وأنشأوا مجتمعا جديدا قوامه الحرية الفردية في الاعتقاد‏،‏ وتكوين الجمعيات‏،‏ وفي إدارة شؤونها‏؛‏ مجتمع حر جديد؛ ليس مجرد مجتمع سياسي‏‏ بل مجتمع أتى بإلهام من الله‏،‏ واعتبروا أنفسهم «شعب الله المختار» الجديد‏‏ وما يقيمونه على الأرض الأمريكية الجديدة ليس بعثا لـ«أورشليم جديدة» وفي المجتمع الجديد كانت قيم العمل والنجاح الموروثة من الكالفنية هي قواعد السلوك المطلوبة‏.‏ وعندما واجه المستعمرون أو المستوطنون الجدد عقبات الطبيعة من برد وشتاء قارس وغابات، فقد كانت تجارب تثبت القدرة على التحمل‏.‏ ولكن عندما واجهوا أهل البلاد الأصليين من الهنود الحمر‏ واجهتهم مشكلة ضمير‏،‏ كيف يتعاملون معهم؟ هل هم بشر لهم ما للبشر من حقوق وواجبات أم أنهم خارج تعريف البشر بل وليس لهم روح‏ وبالتالي فلا يحق لهم الاستفادة من العهود والمواثيق التي اتفقوا عليها لإقامة المجتمع الجديد وقد ساد في ذلك الوقت الرأي الغالب بأن هؤلاء السكان الأصليين من أهل البلاد لم يصلوا بعد إلى مستوى البشر وبالتالي‏‏ عومل أهل البلد الأصليون معاملة وحشية، وغياب الإحساس بتأنيب ضمير‏.‏
هذا باختصار هو التاريخ الأمريكي كما يبدو للمواطن العادي‏.‏ فهي دولة بناها عدد من المستوطنين الذين جاءوا بحلم ليحققوا على الأرض وعداً من السماء‏، فهم «شعب الله المختار لتحقيق وعده على أرض الميعاد» وإقامة المجتمع الجديد مجتمع الديمقراطية والحرية والمساواة‏‏ والعمل هو القيمة الحقيقية‏،‏ أما السكان الأصليون فشكُّوا في وصولهم لمرتبة البشر‏، ولا بأس من معاملتهم بقسوة بل وربما التخلص منهم‏،‏ فهم عقبة في سبيل التقدم‏.‏
إذا كان هذا هو مضمون التاريخ الأمريكي بالنسبة للمواطن العادي‏.‏ فكيف يكون موقفه النفسي عما يراه أو يسمعه عن الأحداث الجارية في فلسطين‏.‏ القضية أن شعباً من المهاجرين من بولندا وروسيا وألمانيا يريدون أن يبنوا وطنا في بلد غريب‏.‏ وهم يرغبون في ذلك تحقيقاً لحلم وتنفيذاً لوعد إلهي للعودة إلى أرض الميعاد‏.‏ ومن المهم ملاحظة المصطلحات المستخدمة‏؛ كلها تستعيد التاريخ الأمريكي نفسه‏.‏ وماذا في ذلك؟ ألم يفعل آباؤنا وأجدادنا من المهاجرين الأوائل هذا الشيء بالذات‏.‏ فهل كان ذلك خطيئة؟ وبالتالي فإن وجودنا نحن الآن مشكوك في شرعيته‏!‏ هراء! لقد كانت دعوة إلهية‏ وقد ترتب عليها أكبر نجاح عرفته البشرية‏‏ بقيام الولايات المتحدة بقوتها المادية والروحية‏.‏ هكذا يفكر الأمريكي العادي‏.‏ ثم ماذا؟ يبني المستوطنون مستوطناتهم على أرض الغير؟ وماذا في ذلك‏، ألم يفعل آباؤنا وأجدادنا ذلك بالضبط‏.‏ وهل نندم على بناء نيويورك الحالية أو بوسطن أو شيكاغو أم كنا نفضل عليها قرى وأكواخ الهنود الحمر‏.‏ ثم انظر إلى أية مستعمرة أو مستوطنة إسرائيلية وقارنها بالقرى العربية المجاورة‏.‏ المستعمرة أو المستوطنة نظيفة‏، بيوتها جميلة المظهر‏..‏ الشوارع نظيفة‏، هناك ملاعب للأطفال‏،‏ هناك ملاجئ للشيوخ‏،‏ هناك غالباً كونشرتو للموسيقي‏‏ ودائماً مكتبة عامة‏.‏ وانظر إلى الجانب الآخر‏ هناك ازدحام بؤس وفقر وقذارة أيضاً.‏ وليس هذا فقط‏, في الجانب الأول هناك حرية وديمقراطية ومشاركة ومعارضة‏، ولكن على الجانب الآخر هناك استبداد وفساد‏.‏ طبعاً لا أحد يتساءل عن أسباب هذا أو ذاك‏،‏ فيكفي ما يراه دون الحاجة إلى الغوص فيما وراء ذلك‏.‏ وماذا أيضاً؟ إن حرية الإسرائيليين مقصورة عليهم ولم يمنعهم ذلك من البطش والقتل وتشريد العرب الفلسطينيين‏.‏ وماذا في ذلك؟ هل كان آباؤنا يشركون الهنود الحمر ـ ثم الزنوج الأفارقة من بعدهم في حياتهم السياسية، وهل منع ذلك من أننا ـ في أمريكا ـ نعرف أفضل النظم الديمقراطية وأكثرها احتراما للحريات‏.‏ وماذا أيضا؟ إسرائيل بلا حدود وتتوسع كل يوم لابتلاع أراضٍ جديدة من دول الجوار‏.‏ وما الغريب في ذلك‏، ألم تستمر الولايات المتحدة بلا حدود رسمية لأكثر من قرن بعد استقلالها‏‏ ألم يساعدها ذلك علي ضم تكساس وأجزاء من كاليفورنيا وشراء لويزيانا وألاسكا‏.‏ هذا أمر طبيعي نعرفه في تاريخنا الوطني ولا عيب فيه‏.‏
وهكذا نجد أن المواطن الأمريكي وبصرف النظر عن اللوبي اليهودي والسيطرة على المال والإعلام،‏ وبصرف النظر عن الاتجاهات الدينية الجديدة ـ هذا المواطن يجد في التجربة الإسرائيلية ما يذكره بتاريخ أجداده‏،‏ فلا يجد غضاضة من التعاطف مع هذه التجربة‏.‏

كاتب من مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول تيسير خرما:

    قبل الإسلام تركز تواجد اليهود بالشرق الأوسط خاصةً الحجاز لتنبؤ كتبهم بقرب مجيء نبي خاتم فيها ولما تبين أنه عربي أسلم بعضهم وتعنت معظمهم لكن بالنهاية تحولوا لمواطنين محميين كأهل كتاب بالدولة الإسلامية وانتشروا مع توسعها السريع بل تخطوا حدودها لأوروبا ووسط آسيا فراكموا ثروات هائلة وضاقت بهم نخبها فطردتهم روسيا تدريجياً لأوروبا الشرقية التي بدورها قتلت نصفهم وطردت الباقي لأمريكا وفلسطين وشجع ذلك صدور قرار أممي لتهويد فلسطين 1947 فانتهز ذلك مدن عربية وإسلامية فطردت يهودها لفلسطين واستولت على أملاكهم

  2. يقول تيسير خرما:

    حل معضلة يهود إسرائيل سلماً بإتاحة مدن عربية وإسلامية وشرق أوروبية وروسية لملايين يهودها عودة لها من فلسطين وضمان أمنهم وعرضهم ومالهم وإعادة عقاراتهم ووكالاتهم وورشهم من أحفاد متنفذين وأزلام استعمار سلبوها بحينه فبقرآن وحديث وإنجيل وآثار ثابت أصل وعرق يهود كل مدن شرق أوسط ولو عاد نصفهم لمدن أصلية لانتهت صهيونية ولن يجد الغرب شعب يهود يدعمه بفلسطين بل سندعم طلب يهود تعويض عن اضطهاد أوروبا لهم وقد عاد يهود للمغرب مع عرب من أندلس بلا مشاكل بل استقبلنا بعد مذابح تركيا وروسيا أرمن وأكراد وشركس وشيشان

إشترك في قائمتنا البريدية