القائد وابن العم

حجم الخط
0

جمع رياض الترك في شخصه ميزة القائد وابن العم؛ القائد كان نموذجاً يُحتذى في الصبر والقدرة على تحمل الصعاب ومقاومة السجن، أما ابن العم فكان يشبهنا ويقول لنا إن بإمكاننا جميعاً أن نناضل ونقاوم الاستبداد.
المناضل القادم من صفوف الفقراء اختار المواقف الصعبة واقترن اسمه باسم فرج الله الحلو في الزمن الستاليني الأسود الذي وضعه مع رفاقه في مواجهة البكداشية في سوريا ولبنان. البكداشية التي شوهت تاريخ الحزب الشيوعي وجعلته يوافق على قرار التقسيم وطردت من صفوفها نخبة من المثقفين والقادة من بينهم رئيف خوري وفرج الله الحلو نفسه.
غير أن المأساة التي عاشها ابن العم كانت استشهاد فرج الله الحلو على أيدي المخابرات السورية في زمن الوحدة، حين تمت إذابته بالأسيد بعد قتله. منذ تلك اللحظة، عرف اليساريون أن مصيرهم مختلف، لكن لم يملك أحد الجرأة على إعلان ذلك سوى ابن العم، فقاد تياراً جديداً في اليسار السوري والعربي.
شكل الترك قيادته من وحدته في السجن حيث بقي سنوات طويلة في الانفرادي يبني من حبات العدس بيوتاً وأحلاماً ثم يهدمها في صباح اليوم التالي كي يعيد بناءها من جديد.
السجن صار للأسف جزءاً من حياتنا العربية، إلى درجة أن المكان الوحيد الذي يزدهر فيه هذا الأدب اليوم هو العالم العربي. كأدب عبد الرحمن منيف وصنع الله إبراهيم ونوال السعداوي وصولاً إلى فرج بيرقدار والأدب السوري الذي روى لنا حكايات تدْمر الرهيبة، صار الوطن العربي سجناً كبيراً يتوسطه السجن الإسرائيلي الذي قدم نموذج مشروع إبادة شعب كامل، وأنتج أحد أهم كُتاب تجربة السجون في العالم، الأسير وليد دقة. وطن عربي يتأرجح بين أن يكون سجناً أو منفى، بحيث تنتفي الأحلام ويهاجر الفقراء عبر بحر الموت.
رياض الترك اختار أن يقاوم السجن والمنفى في آن معاً. وحين فاجأتنا الثورة السورية، عاد رياض الترك شاباً يحمل في عينيه أحلام البدايات المغمسة باحتمالات الحرية، الحرية التي بشرنا بها جسدها عبر مناداته لرفاقه وللناس: «يا بن العم». فصرنا كلنا أبناء عمومة تجمعنا قرابة مقاومة وحش الاستبداد.

رياض الترك هو الاسم السري للحرية والديمقراطية وكرامة الإنسان السوري والعربي. عاش سنوات الثورة كلها في سوريا ولم يغادرها. خاض غمار بحار الموت التي عاشها السوريون والسوريات حين احتلوا الشوارع بحريتهم وطوقهم إلى الكرامة الإنسانية.
كان رياض حيث يجب أن يكون، أحد جنود الثورة وقادتها، وحين جاء زمن اليأس مع التدخل الروسي ثم تكشف الواقع عن احتلالات بالجملة لسوريا: احتلال أمريكي، واحتلال روسي، واحتلال إيراني، واحتلال ميليشيوي في زمن الفساد الخليجي الذي حمى وموّل الانحطاط، والانهيار لم ييأس ولم يغادر جبينه برق الحرية الذي بقي مشعاً وصرخة الأمل بأن أبناء العم سينتصرون في النهاية.
نتذكر رياض الترك لأنه صار ذاكرتنا الحية التي لا تموت. رجل جمع النبل والأخلاق والفقر والحب والتمسك بالقيم، لن يمر في تاريخنا من دون أن يترك بصمته ورؤيته على ذاكرة الأجيال.
من مفارقات الحياة أن رجلاً قضى حياته فوق الأرض السورية وتحتها، يموت في المنفى وتُقفل دونه أبواب العودة الأخيرة إلى حمص، شأنه في ذلك شأن عشرات المثقفين السوريين الذين كان حلمهم الأخير هو أن يدفنوا في تراب وطنهم، لكن الاستبداد لاحقهم حتى بعد الموت.
أتذكر هنا صادق جلال العظم الذي التقيته في ألمانيا وكان على مشارف الموت، وقال لي إنه يريد بعد موته أن يحرق جثمانه ويوضع في سفينة صغيرة ترمى في البحر الأبيض على أمل أن تصل إلى الشواطئ السورية.
لا أستطيع أن أتخيل ابن العم إلا فاتحاً ذراعيه لنا جميعاً، هكذا التقيت به للمرة الأولى في الندوة التي أقيمت في ذكرى عبد الرحمن منيف في دمشق حيث تكلمت عن تجربة منيف الأدبية في معالجة السجن الذي يعيشه الإنسان العربي. يومها ضمني ابن العم إلى أبناء العمومة، وأعطاني كما أعطى الجميع، تجربته وذاكرته كي نتابع المسيرة.
لك يا بن العم مجد الذكرى ومجد البطولة.
فليكن ذكره مؤبداً.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية