الفيلم المكسيكي «المطبخ»… صراع المال والعنصرية والهجرة

نسرين سيد أحمد
حجم الخط
0

برلين ـ «القدس العربي»: لا شيء يكشف ما يجري في قاع مدينة كبيرة أكثر من مطعم يعمل فيه مهاجرون غير شرعيين، أتوا إلى أمريكا آملين في الحصول على الجنسية. هذا ما يقدمه المكسيكي ألونسو رويسبلاسيوس في فيلمه «المطبخ». ففي قلب ميدان تايم سكوير في نيويورك، يقع مطعم «ذا غريل»، الذي تدور في مطبخه أحداث الفيلم. والفيلم لا يعنيه الطهي، ولا تشغله وصفات الطعام، بل يشغله الصراع على المال والطبقة والعنصرية، وآمال طاقم المطبخ المهمشين وصراعاتهم.
«المطبخ» هو الفيلم الروائي الرابع لرويسبلاسيوس. يشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين في دورته الرابعة والسبعين (15 إلى 25 فبراير/شباط الجاري). يبدأ الفيلم مع استيلا المكسيكية، التي لم تتم العشرين من عمرها بعد، وهي التي جاءت إلى نيويورك لا شيء في جعبتها سوى بضع كلمات انجليزية، واسم بيدرو، ابن قريتها، الذي يعمل في المطبخ، والذي ترجو أن يتوسط لها لتعمل هناك.
تدخل استيلا المطعم هو الباب الخلفي، حيث تتراكم المخلفات وأكياس القمامة وبقايا الطعام التي تتخاطفها الفئران. يقودها حارس أسود عبر دهاليز طويلة ذات طلاء متسخ إلى جوف المطعم. وطوال الفيلم لا نرى أبدا نيويورك وناطحات السحاب الأنيقة، ولا نرى متنزه سنترال بارك الشهير، إلا في لقطات معدودة. ولا نرى طوال الفيلم إلا الأزقة الخلفية، وجوف المطبخ، ومن يشغلونه من عمال غير شرعيين، يكدحون ويتشاجرون ويتبادلون السباب والمزاح الماجن.
المطبخ الذي نراه بأعين استيلا مطبخ متعدد الأعراق واللغات والأجناس، فيه عاملون من أمريكا اللاتينية.. نرى سودا يتحدثون الانجليزية، وسودا يتحدثون الفرنسية، وآسيويين، وشمال أفارقة. حتى مدير المطعم يدعى رشيد، وهو يتحدث الانجليزية بطلاقة، ولكن يبدو لنا من شمال إفريقيا. جميع هؤلاء العمال يتحملون ساعات العمل الطويلة والعمل الشاق والأجر الزهيد، آملين في أن يحصلوا يوما على حق الإقامة الشرعية في الولايات المتحدة.
الفيلم مقتبس من مسرحية للكاتب الانجليزي أرلنولد ويسكر بنفس العنوان، ولكن رويسبلاسيوس نقل أحداثها من لندن إلى نيويورك.. ما نشاهده في الفيلم هو التعامل والأخذ والرد بين هؤلاء العاملين في المطبخ، وهي تعاملات فيها الكثير من الضغط، بسبب العمل المتلاحق، الذي لا ينتهي، ويضاف إليها ضغط اختفاء مبلغ نحو ثمانمائة دولار من إيراد اليوم الماضي للمطعم، الأمر الذي يتزامن مع حاجة نادلة في المطعم إلى مبلغ مقارب لإجراء عملية إجهاض للتخلص من حملها من بيدرو، أحد طهاة المطعم.

يسخر رويسبلاسيوس من الحلم الأمريكي. ففي بلد الوفرة والطعام حتى التخمة تتعطل ماكينة تقديم المشروبات الغازية في المطعم، وتغرق أرض المطبخ بالمشروب الغازي، متحولة إلى نهر من المشروبات الغازية، تغوص فيه أقدام العاملين في المطبخ، ويفقدون اتزانهم ويسقطون، وتتسخ ملابسهم. يتحول حلم الوفرة الأمريكي إلى مجرد قاذورات لزجة تلطخ الأرض، وتضيف عناء إلى عناء العاملين المرهقين للتخلص منها. نرى الطعام الذي يعد في المطعم فلا نشتهيه، بل في بعض الأحيان نتقزز منه. ولا نشعر بأن الطهاة في المطعم يتلذذون بالطعام أو يتفننون في إعداده. كلها وجبات تعد على عجل تحت ضغط عمل كبير.
المشهد الوحيد الذي نرى فيه طعاما يعد على مهل وبمذاق، هي عندما يعد بيدرو شطيرة لحبيبته بمكونات جلبتها له استيلا من منزل والدته في المكسيك. إنه الحنين إلى الوطن، والحنين إلى مذاق أصلي، وليس كل هذه الوجبات السريعة المختلقة.
في أحد مشاهد الفيلم يحدث بيدرو حبيبته النادلة في المطعم عن السلطعون. يخبرها أن السلطعون كان يوما ما طعام الفقراء، يجده الصيادون وسط الأسماك في شباكهم، فلا يجدون له مشتر، فيقذفون به للفقراء على الشط. وذات يوم عنّ لأحد الطهاة المشاهير أن يجربه في مطبخ مطعمه، وأضاف له بعض المقبلات والتوابل، وأصبح السلطعون إثر ذلك طعام الأثرياء. يقولها بيدرو وتلتمع عيناه، متمنيا أن يكون له يوما حظ السلطعون. يتمنى أن يأتي اليوم الذي يخرج فيه من حيز الفقر والبحث عن الإقامة الشرعية إلى النور والمال.
« يقدم فيلم المطبخ» صورة مصغرة لنيويورك، أو فلنقل إنها صورة جميع المدن الكبيرة في الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية، حيث يرد المهاجرون غير الشرعيين من كل حدب وصوب ليبتلعهم جوف المدينة. ويبقون هناك قابعين يديرون عجلاتها بجهودهم المضنية، على أمل أن يأتي اليوم، الذي يخرجون فيه إلى نهارها ويرون ضوء شمسها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية