الفلسطيني والموت… والغاية من المعنى

غالباً ما ينشغل القارئ أو المتلقي بالبحث عن معنى العمل الأدبي أو الفني، انطلاقا من مبدأ ما يمكن أن نطلق عليه قلق البحث عن المعنى، الذي يعدّ جزءاً من معضلة التلقي بوصفها اتجاها نقدياً، غير أن قيمة البحث عن المعنى كانت إحدى القضايا الفلسفية، التي بدأت مع الإنسان، الذي وجد نفسه في مواجهة البحث في غموض معنى وجوده الطارئ، ولا سيما في مواجهة معنى الفناء أو الموت، فانشغل الفلاسفة والأدباء بالبحث عن إجابة هذا السؤال، الذي اندرجت تحته جميع المحاولات لخلق نظام لمعالجة المعنى.
غير أن المعنى يبقى إشكالية غير منجزة، لأننا لا يمكن أن نتيقن من أننا وقعنا على المعنى الحقيقي.. ما دفع إلى ظهور التيارات النقدية، التي سعت للإجهاز على المعنى، ونفيه، أو تمييعه، ضمن تيارات منها المقولات التفكيكية والتناصية، التي ترى المعنى حصيلة تدافع خطابات متعددة، لا يمكن في النهاية أن تحيل إلى معنى ثابت، فالمعنى في حالة تعليق أو يتم إرجاؤه، وهي من صيغ المراوغة اللغوية، التي أسهب رولان بارت في تكريس جهوده للتنظير لها، بل إنه كان يرى في ميلاد القارئ إشارة إلى موت المؤلف، غير إننا في مواجهة الموت ينبثق سؤال المعنى الأكثر تعقيداً؛ لأن معنى الموت يحتمل تفسيرات متعددة، فأن تموت من أجل المعنى فهذا مختلف عمن يموت بلا معنى!
في فيلم المخرج الفلسطيني إيليا سليمان «إن شئت كما في السماء» يأتي مشهد يحتمل الكثير من التنبؤ، ويحتمل شيئا من السخرية السوداء… حين نرى مدينة (غربية) حضرية تنتمي للمتروبوليتان، يحمل فيها الناس السلاح: بندقية، مسدسا، أو رشاشا… في الشارع، ومحل البقالة، والمدرسة، والمستشفى… حتى إن الأم التي تدفع عربة ابنها الرضيع تكون مسلحة. لكن ما الذي يعينه هذا المشهد؟ لعل المعنى يحيل إلى أن إنسان هذا العصر، الذي لم يعد يتصل بالمعنى الحضاري حقيقة، ولا سيما مع فائض هذا السلاح، الذي يقتل الفلسطينيين، إذ يصنّع هذا السلاح، ويُصدّر من أكثر دولة تدّعي أنها تدافع عن القيم الحضارية، في خطابها، أو في كتبها، وأفلامها. قد يبدو مشهد المخرج إيليا سليمان على قدر كبير من العبقرية، وكأنه يحاكي مشهد مستوطني الكيان الصهيوني، وهم يحملون بنادقهم أينما ذهبوا، بدعوة من المتطرف الصهيوني إيتمار بن غفير.
هكذا ندرك كيف يُخلق المعنى الزائف، فهذا المسلك يعني بأن المحتلين مهددون، أو أنهم في وضعية الدفاع، لكن المعنى الحقيقي على العكس من ذلك، فهم يسعون للقتل، الذي لم يتوقف يوما واحداً منذ بدء النكبة… لكن بلا معنى …. فقط هذا القتل يعني أنه نتج عن اختلال المعنى في هذا العالم، إذ على المحتل، وسارق الأرض أن يدافع عن نفسه في مواجهة صاحب الأرض.. كل هذا يحضر مع شيء من التواطؤ من قبل العالم، الذي نزع المعنى عن الفلسطيني، بل نزع عنه صفة الإنسان، ومن قبل نُزعت منه أرضه، وتاريخه، ومستقبله… هي محاولات للإجهاز على معنى الفلسطيني، لكن المعنى الأكثر جدلاً، وربما بشاعة… حين يصدق إخوتك المعنى الصادر عن قاتلك… ما يدفعنا لأن نستذكر قصيدة محمود درويش التي قال فيها:
أَنَا يُوسُفٌ يَا أَبِي. يَا أَبِي،
إِخْوَتِي لَا يُحِبُّونَنِي، لاَ
يُريدُونَنِي بَيْنَهُم يَا
أَبِي.
يَعتدُونَ عَلَيَّ وَيرْمُونَنِي
بِالحَصَى وَالكَلَامِ يُرِيدُونَنِي أَنْ
أَمُوتَ لِكَيْ
يَمْدَحُونِي.
تبدو ظاهرة المعنى سؤالاً ناقشه عالم النفس اليهودي النمساوي فيكتور فرانكل، أحد الناجين من الهولوكوست، إذ وجد المعنى في التجربة التي خاضها، فسعى لأن يتجاوز معناها السلبي. لكن الكتابة عن معنى الأشياء عند انقضاء الظاهرة، أو الألم، قد يختلف عن محاولة البحث عن المعنى.. كأن تختبر الألم الذي يتعدد المعنى فيه، فالألم لا يعني ما يتصل بالمادي فحسب، إنما يتصل بالأثر النفسي الذي ينتج عن الحدث، ولا يمكن أن ينتهي المعنى من الألم بانتهاء الحدث؛ ولهذا فإن الكتابة عن معنى الألم تبقى عملية مستمرة لطالما بقي الإنسان يكمن في داخله الوعي، وعند انفصال هذا الوعي عن الجسد ينتهي سؤال المعنى الذي ينتقل إلى صيغة أخرى.
غالباً ما يُثار سؤال المعنى في الأعمال الإبداعية عند البحث عن الغاية، التي تكمن فيها، وهي غالباً ما تتصل بالغاية القيمية، إذ لا يمكن للإنسان أن يتقبل فكرة أن لا يكون هنالك من معنى لأي شيء؛ ولهذا فإن المقولة التفكيكية، التي أتى بها جاك دريدا بدت الأكثر جدلاً؛ بمعنى أنها كانت الأكثر تواضعاً من ناحية الاستقبال لدى النقاد العرب، الذين تكمن في ذاكرتهم الغائية من النصوص، فحين نواجه عملاً أدبياً وفنياً فإننا نبحث دائما عن المعنى، أو الهدف منه. وحين يبدو العمل مغرقاً في الضبابية أو الغموض وربما الإبهام، بعبارة أدق، نسقط على هذا النص حكماً بأنه نص لم يرق إلى المستوى المطلوب، ونقصد فاعلية الغاية.. فهل للموت من غاية لدى الإنسان، أو هل للقتل غاية قد تنتهي يوماً؟ أم إن الإخوة العرب يعتمدون معنى الموت عبر الرؤية التفكيكية!
لعل الموت في تشكيلاته قد يبدو غاية في ذاته، كما لدى العقل الاستشراقي الغربي المرتهن أو المختطف من قبل الصهيونية، التي ترى في الموت معنى شرعياً ومقبولاً، ولا سيما حين يتعلق بالآخر، لكنه مستنكر حين يتعلق بالذات… أو يبدو على قدر كبير من المعنى. هكذا نتأمل هذه الصيغة التي ترى في البشر وموتهم ضمن تصنيف المعنى الأقل، أو أنه لا يحمل المعنى ذاته، فحياة البعض ربما أكثر قدراً وقيمة من حياة الآخرين، فغالباً ما نسعى إلى تحييد الموت، حين لا يكون جزءاً من اتصاله بالذات، هكذا نرى الموت خطاباً عرقياً.. مع أن الغرب ادّعى أنه لا يؤمن بهذه الأقوال القائمة على التغاير والاختلاف بين البشر، وأن حياة كل إنسان مهما كان تنطوي على المعنى ذاته والقيمة عينها، لكن ما نراه في الوقائع يخالف ذلك، فعدد القتلى في غزة قد اقترب من ثلاثين ألفاً في بضعة شهور، غير أنّ هذا الرقم ربما لا يعني العالم، لأن من يموت هو شعب اعتاد على الموت، وهنا يكمن المعنى الاعتيادي، لكن هذا الرقم لو وقع في مكان آخر لضج العالم، فيكون معنى الموت استثنائياً، وحينها يسارع بعض العرب إلى التعاطف والمساعدة.. ربما لأن المعنى خارج الجملة الفلسطينية؛ فمعنى أن تكون عربياً فلسطينياً لا يحمل المعنى ذاته، أو كما قالت أم سعد في رواية غسان كنفاني «خيمة عن خيمة تفرق».
إن مصطلح «العربي» يبدو في هذا الزمن من أكثر المصطلحات إثارة للجدل؛ لأنه على ما يبدو أقرب إلى وهم زائف، فلا ينطوي على أي معنى حقيقي سوى أنه من مخلفات متخيل التاريخ؛ ولهذا فإن الروايات التي يكتمل المعنى فيها قد تبدو لنا من أكثر الروايات إثارة للضجر، لأنها تجهز على أفق المخيلة، التي ينبغي أن تتخلص من كسلها، وأن تسعى لاختلاق معنى آخر، فكل من يقرأ أو يشاهد يرى المعنى، الذي يريده، أو الذي يحتاجه فحسب، وهكذا يبدو المعنى مسألة تقدير لا غير كما هو الموت لدى البعض.

كاتب أردني فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية