الفعل المسرحي في «الرواية»

مشاهدة عرض مسرحي لرواية شهدتُ ولادتها مع آلاف الأصدقاء من القراء، شيء استثنائي ومدهش أشبه بأن تفتح عينيك فجأة وأنت تشاهد شخصيات ورقية رافقتك ذهنياً من خلال القراءة، لتصبح شخصيات حقيقية لها صوت وحركة وروح حية، تنبئنا أن ما شاهدناه لم يكن قطعة فنية ولكن حياة مختزلة بشكل متمكن في شكل لوحات متواصلة عندما نجمعها نكتشف السر المخفي داخل النص نفسه، وهي أن الحياة أجمل رهان، ولا قوة تضاهيها. طبعاً، لم تحضر الشخصيات الروائية لتسرد لنا أحداث الرواية بالتفصيل، فالعرض المسرحي قام بما كان يجب أن يقوم به، عَجن الشخصيات وأخضعها لأدواته المسرحية لينتج لنا شخصيات جديدة ربما تتشابه في عمقها البنائي وهواجسها الثقافية والفكرية والحياتية، ومعضلاتها اليومية، ولكن تختلف في تفاصيلها؛ لتقدم لنا ما ظلّ عالقاً بها وهي تخرج من الرواية للمسرح.
كانت فرحتي كبيرة بحضور العرض الشرفي لمسرحية رمادة 19 بالمسرح الوطني، الدين بشطارزي، في العاصمة في ذلك اليوم الممطر جداً، من إخراج شوقي بوزيد، واقتباس الكاتب والإعلامي عبد الرزاق بوكبة، عن روايتي «ليليات رمادة» بجزأيها: تراتيل ملائكة كوفيلاد، ورقصة شياطين كوفيلاند.
كان العرض مميزاً ويعتبر تحديّاً كبيراً للمخرج أولاً، إذ ليس من السهل مسرحة رواية ضخمة جسدت جزءاً مهماً من الحياة في عالمنا المتخلف والمقاوم أيضاً، وبشخصيات معقدة في عمل مسرحي محدود الشخصيات ومقيّد بوقت محدد، لكن المخرج بذكائه ورغبته وإصراره، نجح في التقاط المشاهد المفصلية في الرواية دون إعادة إنتاج للرواية، بل قدم قراءة بأدواته المسرحية، معتمداً بذلك على فريق من الممثلين الشباب من طلبة المعهد العالي لفنون العرض والسمعي البصري مزدوجي الخبرة المسرحية، بعضهم معروف والبعض الآخر تتاح له الفرصة لأول مرة في التمثيل في عرض كبير ومن إخراج مبدع وفنان حساس، فأبدعوا في عيش أدوار الشخصيات بكل احترافية وبدون خوف، بل بإتقان لغوي عربي وبدون أي خطأ، مما يظهر أن التجربة مرت ببروفات متعددة حتى اكتملت. لهذا وحده يمكننا أن ننحني للمخرج المسرحي الكبير شوقي بوزيد.
أعجبت بالديكور البسيط والخلفية المعتمة التي كانت تجعل الشخصيات تتحرك في فضاء مجهول ومعتم، وهو ما يعكس الفضاء الروائي الذي يملأه الخوف من المجهول والرعب الذي خلفه الوباء في النفوس. وهو خيار مسرحي من المخرج، بحيث اعتمد على كل مكونات المسرح التجريبي الذي يعطي الأولوية الكبير للاختزال الذي تعوضه رمزية دافئة وغير منغلقة على نفسها. الفراغ في الفضاء المسرحي الذي لا تملؤه إلا أصوات الألم والاستغاثة أعطى تمايزاً مذهلاً، وكأن الفراغ ليس فراغاً ولكنه مساحة أخرى جانبية من السواد غير المرئي الذي تنتظم المسرحية حوله.
في النهاية، لا يوجد فراغ؛ لأن ما يرتسم في الذهن من وراء صرخات رمادة في مواجهة بؤس والدها، وظلم كريم زوجها، أو استيقاظ حرائق الغيرة من خلال ميشا، يمنح الركح الذي طغى عليه السواء امتلاء. في كل الأحوال، الألم سيد اللحظات. تشبث العرض بالإيقاعات الموسيقية التي استلهم الموسيقي فيها شيئاً من روح ليليات شوبان التي تبدأ بهدوء ونعومة، وتختم اللوحات بعنف يجبر الجمهور على التوقف والتصفيق تعبيراً عن إعجابه، إذ كانت المقطوعات الموسيقية لشوبان (Les nocturnes de Chopin) في الخلفية تبدو هادئة وناعمة مع بداية العرض وهدوء الأحداث، وتزداد حدّة وقوة مع تشابك الأحداث وتعقدّه، فهي تجسد في تنوعها حالة الكونتراست أو التضاد المسرحي الذي ترسمه السينوغرافيا من خلال الإضاءة التي تركز على الفاعلين في المسرحية لإجلاء الظلمة ولو لبرهة زمنية قليلة؛ الأحمر يتضاد مع الأسود، والأسود يناهض الأزرق، ويصل التضاد إلى الأقاصي في لعبة الأسود والأبيض. لم تكن الألوان شيئاً إضافياً، ولكنها عمقت قوة الكونتراست في المسرحية. يقابلها في الرواية كل الأحداث المتضاربة التي نسجها النص من خلال سلسلة الصراعات الداخلية النفسية والحياتية بين حياة إيجابية تصنعها الشخصيات الروائية، وأرض «كوفيلاند» في أفق الانفجار، لكن هبري ورمادة وإخوتها يسحبونها بالتضحيات نحو بر الأمان، بينما عصابة سوداء تعمل على تفجيرها، وهو الصراع الأبدي بين الخير والشر.
العرض المسرحي ركّز على شخصية رمادة (الممثلة القديرة والجميلة أسماء الشيخ) ووضعها وسط أربع شخصيات، الشخصيتان الذكوريتان (الأب، الزوج)، كان كل منهما يريد رمادة على مقاسه ويحاول أن يصحح أخطاءه بها معتدياً بذلك على ذاتها وحريتها بجعلها صورة مطابقة له، وشكّلت الشخصيتان محور صراع ثنائي بين (رمادة/ السلطة الأبوية والسلطة الدينية)، و(رمادة / السلطة الزوجية)، ورهانه الأساسي هو بحث رمادة عن أناها وتخلصها من القيد الذي وُضعت فيه، وبحثها عن حريتها سواء بمواجهة والدها ومحاسبته بكل جرأة أو بوقوفها في وجه زوجها وطلبها للطلاق للتحرر من أمراضه التي سممت حياتها. وكل من هاتين الشخصيتين كان لهما مصير مشترك في النهاية، إذ زالت سلطتهما بموتهما في نهاية تراجيدية.
أما بالنسبة للثنائي الآخر (شادي وميشا) فقد شكلا الجانب العاطفي لرمادة، حيث كان شادي رمزاً للحلم والحرية والرغبة المستمرة في الحياة والاستماتة للحصول على هذا الحق، بينما شكّلت ميشا العنصر المضاد الذي يهدد رمادة في حصولها على هذا المبتغى، فكانت ميشا الخطر الذي يهدد علاقتها بشادي وتسببت في إخراج مخزون الغيرة والخوف من خسارتها لمن تحب.
كل هذه الصراعات حاولت المسرحية تفكيكها؛ فرمادة كانت على مدار العرض المسرحي تتوسط خشبة المسرح الفارغ من أي ديكور سوى حلقة مغلقة ثبتت عليها مرآة متحركة، تجلس رمادة في وسطها على كرسي، هذا ما جعل رمادة أشبه بمحتجزة داخل هذه الحلقة المفرغة، تقف وجهاً لوجه مع المرآة تصارع نفسها وتصارع بقية الشخصيات.
وهذا الصراع كان يسير في خطين: صراع ظاهري من خلال شخصية رمادة مع بقية الشخصيات، نشأ داخل صراع أكبر، وهو الصراع مع الوباء الذي جعل النفس البشرية في لحظات عزلة وتأمل وعودة لذاتها.
العرض تراجيدي لكن ببعد فلسفيّ عميق، وكل تفصيل وحركة لها دلالاتها وإيحاءاتها.
الجميل في هذا كله هو أن المسرح يفتح المجال لتشكيل رؤية جديدة للرواية وخلق تصوّر جديد ومكثف للشخصيات التي خلقتها الرواية ولأحداثها قد يركز على فكرة واحدة ويتوسع فيها، وقد يركز على شخصيات ويسقط أخرى، فهو عمل إبداعي لا تحكمه ضوابط وشروط محددة ومسبقة، رهانه الأساسي الحرية وتقديم العمل بكثير من الحب والشغف والإتقان، وهو ما لمسناه في هذا العرض.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية