الـ«إيكونوميست» في غزّة: العَلَم البالي وصحراء الاحتلال

حجم الخط
0

على غلاف عددها الصادر قبل نحو عام، اختارت أسبوعية الـ«إيكونوميست» البريطانية وضع صورة رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو على خلفية العَلَم الإسرائيلي، مع سؤال يسير هكذا: «هل يكسر بيبي إسرائيل؟». وأمّا غلاف عددها الأخير فإنه يلتقط العَلَم ذاته، أقرب إلى قطعة قماش بالية، منصوباً على عصا واهية، تتقاذفه الرياح في صحراء قاحلة، والعنوان يقول: «إسرائيل وحيدة».
غلاف 2023 توقف عند ائتلاف نتنياهو الذي يزمع إدخال إصلاحات قضائية تضع المحكمة العليا الإسرائيلية على رفوف التعطيل والتهميش؛ في فترة تشهد الدرجة الأدنى من تهديد الحرب مع الجوار، واقتصاد تكنولوجي أكثر ازدهاراً، ومعدّل دخل فردي بلغ 55.000 دولار أعلى من مستويات الاتحاد الأوروبي.
غلاف 2024 يقول، منذ الافتتاحية: الوضع الراهن في الحرب على قطاع غزّة يُبقي دولة الاحتلال «حبيسة مسار هو الأشدّ قتامة خلال 75 سنة من وجودها، حيث الاحتلال بلا نهاية، والسياسة اليمينية المتشددة والعزلة». وإذا أنكر إسرائيليون كثر هذه الحقيقة اليوم، تتابع المجلة، فإنّ «الحساب السياسي سوف يأتي في حينه».
والـ«إيكونوميست» ليست منبراً عادياً، لأنها بوّابة اقتصاد السوق والنُظُم الرأسمالية ومرجعية الشركات الكونية العملاقة غرباً وشرقاً على حدّ سواء. ولهذا فإنّ ما تُنذر به، بين حين وآخر، من أخطار جسيمة تتهدد دولة الاحتلال لا يصحّ أن يُقراً تحت عناوين القلق أو الخوف أو الإشفاق على الكيان الصهيوني فقط؛ بل بوصفه نذيراً حول مقادير الأذى التي يُمكن أن تُلحقها دولة الاحتلال بالمصالح الكبرى ذاتها التي تتولى الأسبوعية البريطانية تمثيلها.
بهذا المعنى أيضاً تجوز قراءة الدلالات الخاصة خلف تبويب موادّ الغلاف، وتنويعها بحيث تشمل تحليلاً لانعدام الصلة بين إسقاط حماس وجَعْل الاحتلال أكثر أمناً، والمخاطر التي تكتنف مسعى الولايات المتحدة لاستبدال نتنياهو، وآفاق تسمية رئيس وزراء فلسطيني جديد؛ من دون أن يغيب التوقف عند مغزى خطبة السناتور الأمريكي شك شومر حول الحرب في غزّة (التي تقتبس سلسلة من الإساءات التي سبق أن وجهها نتنياهو إلى إدارات أمريكية شتى، وبلغت ذات يوم درجة تفكير وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر في طرد السفير الإسرائيلي).
يحقّ لمستوى ثالث في قراءة الموادّ ذاتها، ولكن صورة الغلاف على وجه التحديد، أن تتلمس تحوّلات الـ»إيكونوميست» في تناول وقائع 7 تشرين الأول (أكتوبر)؛ وكيف سارت على منوال مماثل، أو يكاد، لمواقف غالبية الديمقراطيات الغربية، ضمن الاتحاد الأوروبي وفي الولايات المتحدة وكندا وأستراليا: من «الحجّ» اللاهث إلى مستوطنات غلاف غزّة والتسابق على نصرة الاحتلال، إلى رفض وقف إطلاق النار وصبّ زيوت السلاح والعتاد والمال على العدوان الإسرائيلي، وصولاً إلى المأزق الأخلاقي والقانوني خلف تجميل حرب الإبادة الإسرائيلية…
والحال أنّ أسبوعية المال والأعمال النافذة ليست جديدة في شؤون الإشفاق على دولة الاحتلال من عواقب نتنياهو، ففي تشرين الأول (أكتوبر) 1997، بعد أقلّ من عام على فوزه في أوّل انتخابات مباشرة لرئاسة الحكومة، شنّت الـ«إيكونوميست» هجوماً كاسحاً، بل ومقذعاً في الروحية العامة والعديد من المفردات، ضدّ نتنياهو؛ فذهب عنوان الافتتاحية إلى وصفه بـ«الأخرق على حلقات»، وصاحب «موهبة استثنائية في الخروج بقرارات سيئة التدبير، استفزازية، وفي التوقيت الخاطئ». وجاءت الخاتمة هكذا: «إن إسرائيل، إذْ تدخل نصف قرن من عمرها، لا تستحقّ رئيس الوزراء الذي يحكمها الآن. وينبغي عليه أن يرحل».
وبمعزل عن غلاف يُحيل العَلَم الإسرائيلي إلى خرقة عزلاء في صحراء جدباء، لا عزاء للـ»إيكونوميست» في أنّ نتنياهو، بعد 75 سنة وليس 50 فقط، لم يرحل بل هو باقٍ ويتمدد: مجرم حرب منتَخب من مجتمع يحثّ الخطى، باضطراد، نحو تقديس جرائم الحرب واعتناق منظومات الأبارتيد الأسوأ في التاريخ.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية