العودة المظفرة لنرسيس

بعد أن انتهى زمن التكتم الخاص به، قال لي صديقي الذي لم يكن محظوظًا جدًا في الحب، إنه خسر آخر فرصه بسبب صورة. استسلم ذات مساء للكاميرا التي التقطت صورته بين جماعة معانقًا سيدة قفزت في حضنه لحظة التصويب، ثم عادت إلى جلستها بعيدة عنه، وفي نــــــهاية السهرة مضـــــى كل منهما في سبيله، لم يلتق بها ثانية خــــــلال أيام الرحلة، ولم يعلق بوجدانه شيء خاص من السهرة الصاخبة التي أقامها له أحد الأصدقاء.
وعاد بشوق للقاء حبيـــــبته التي لما تبدأ علاقتهما الجديدة بعد، وبعد السلام بالأحضان ونحو ذلك، أخذ ـ بفخر عوليس ـ يعرض عليها الأشياء المثيرة للفضول التي عــــاد بها من رحــــلته. وفجأة نطت الصورة بين غــــيرها من صور الرحــــلة، فجعــــلت استمرار العلاقة مستحيلاً، لأن حبيبــته لم تقتنع بأن هذا الإلتصاق ابن لحظته وعفو خاطر سيدة مجهولة نال منها الشراب.
الآن، وضعت شركات الهاتف المحمول في أيدينا فخاخًا أقوى من خفة السفر واستخفاف السكر، باختراعها الكاميرا الأمامية التي أتاحت للإنسان تصوير نفسه بنفسه. يسوي هندامه على هواه، قبل التصويب على نفسه!
اللقطة التي وجدت اسمها Selfie في الإنجليزية المرنة سريعة التوليد، صارت طاعون العصر، لأنها تقتات على النرجسية بكل رعونتها، وليس على ولع الخلود؛ الشعور العميق، الذي تحيا به الكاميرا الخلفية المصوبة نحو الآخرين.
اكتشف نرسيس نفسه في مرآة الماء، مهتزًا وزائلاً. واكتشف إنسان الـ Selfie نفسه في شاشة هاتفه. وبينما كان نرسيس وحيدًا أمام النهر، فإن نرجسية العصر الحديث لا تشترط الوحدة. يتأبط الإنسان نرجسيته مطوية كمظلة حتى بين الجماعة، وسرعان ما يفتح مظلته ويستثير بنرجسيته نرجسياتهم، فيتلاصقون من أجل ‘سيلفي جماعي’.
حلت الصورة الثنائية والجماعية محل العبارات الفارغة التي يتبادلها الناس لكسر الجمود، لكن اللقطة السيلفي تذهب بحميميتها أبعد كثيرًا من العبارة الباهتة: يبدو أنها ستمطر، أو كم يبدو الجو صحوًا اليوم!
هددت تلك الحميمية الرعناء أوباما بالعودة من جنوب أفريقيا وحيدًا من دون ميشيل، عندما جلس مع ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني كاميرون وبينهما رئيسة وزراء الدانمارك هيلي ثورننج شميت، متشاغلين عن القداس، يتبادلون التقاط الصور متلاصقين.
عبرت ميشيل عن غضبها بحركة أنثوية خالية من الدبلوماسية، حيث انتقلت لتفصل بين زوجها والمرأة الأخرى. وتلقفت الصحافة الشعبية والمواقع أزمة الـ selfie، ولم تخمد القصة إلا بعد فتح صفحات أخرى من علاقة الزوجين، واشتكت ميشيل من أنها ليست المرة الأولى التي يتجاهل فيها أوباما حضورها أو يتصرف بشكل يجرحها في المناسبات العامة.
سرقت لقطة العابثين الثلاثة الإهتمام من جنازة العصر، ما دعا مصور وكالة الأنباء الفرنسية الذي صور القصة إلى إعلان احتقاره للجنس البشري. روبرتو شميديت التقط مع فريقه 500 لقطة من جنازة الرجل الأسطورة، لكن لقطة أوباما صارت الأشهر مما عده شميديت انعكاسًا لعار الجنس البشري.
لابد أن ملايين من المشاهدين لهم رأي روبرتو شميديت وأبدوا امتعاضهم من ابتذال مناسبة العزاء بالإبتسامات المتبادلة بين الرجلين المتنافسين على الإقتراب من القطة الدانماركية. لكن، ليس من أجل هؤلاء تعمل الرأسمالية، بل من أجل الملايين الآخرين الذين تابعوا بإعجاب خال من الأحكام الأخلاقية نزق الـselfie الرئاسي، فأعلنت شركة آبل عن تطوير جديد تدخله على الكاميرا الأمامية من أجل التقاط ‘سيلفي’ أكثر وضوحًا.
والمتابع للصراع المحموم بين شركات الهواتف المحمولة يجد التنافس متركزًا في جزء كبير منه على تطوير إمكانيات الكاميرا. وكادت شركات المحمول تنهي بسباقها عصر الكاميرات الشخصية التي لم تعد قادرة على ملاحقة التصعيد في دقة كاميرات الجهاز متعدد الأغراض، تمامًا مثلما يهدد الفيسبوك باختفاء البريد الإلكتروني، لأن موقع التعارف الإجتماعي يقدم إمكانات متعددة تتجاوز التواصل الوظيفي الذي يقدمه البريد الإلكتروني.
ونحن نعرف أن فكرة الموقع نفسه قامت على ولع طالب أمريكي بصورة إحدى زميلاته، أي أن الموقع يدين للفوتوغرافيا بأهم أسباب بقائه وتوسعه. وهناك عدد كبير من مستخدمي الفيسبوك لا يجيدون التعبير بالكلمات، ويركزون في تفاعلهم مع الآخرين على الصور التي بدورها تستدعي غمزة فإعجابًا فتعليقًا علنيًا؛ فرسالة خاصة.
يتلصص الساعون للتعارف على الصور، وينصبون شراكهم لتصيد الجنس الآخر بأجمل صورهم وأحيانًا بإثارة الفـــضول من خلال التخفي خلف صور المشاهــــــير، لكن النـــــظرة المتفحصة من الرجال لصور رجال ومن النساء لصور النساء ربما تكون أكثر من تفحص أحد الجنسين لصور أشخاص من الجنس الآخر.
المولع بأنثى يقتـــــفي أثر زوار صفحتها، كذلك تفعــــل الأنثى مع صور الإناث من زائرات رجلها.
وهكذا لم تعد نهاية علاقة مرهونة بصورة للحظة منسية تقفز صدفة من حقيبة مسافر أو بلقطة ‘سيلفي’ قليلة التهذيب، بل بإشارة Like يضعها زائر دؤوب أو زائرة على صورة لم يلتق أو تلتق بأصلها أبدًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية