العوامل المعلنة والخفية خلف انشغال إسرائيل المفرط بالأسطورة الفلسطينية محمد الضيف

وديع عواودة
حجم الخط
0

الناصرة- “القدس العربي”: منذ مساء الأمس، تنشغل الصحافة العبرية بصورة جديدة للقيادي في حركة المقاومة الإسلامية “حماس” محمد الضيف انشغالاً مفرطاً يستبطن عدة دلالات، ترتبط أيضاً بنشوب الحرب على غزة، بدايتها ونهايتها.

والضيف (58 عاماً) من الشخصيات النادرة التي باتت أسطورة بعيون الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء. ينتمي لعائلة فلسطينية من قرية كوكبا، وهي فلسطينية مهجّرة إلى قضاء غزة، منذ نكبة 1948، واسمه الأصلي محمد دياب إبراهيم المصري، وعُرف بـ “الضيف” بسبب حذره وزياراته القصيرة للبيوت، وكأنه ضيف يأتي وما يلبث أن يغادر. عنده؛ الزيارة غارة.

الضيف متهم من قبل إسرائيل بالتخطيط لعمليات عسكرية كثيرة منذ انضمامه لـ “حماس” في تسعينات القرن الماضي، ويصنّف من قبلها كتلميذ للمهندس الشهيد يحيى عياش. وفي 1993، عيّن قائداً لـ “كتائب القسام”، الذراع العسكري لـ “حماس”. ولذا فالضيف هو أسطورة في وعي الفلسطينيين أيضاً، وهو بالنسبة لهم بطلٌ ومثال على نوع المجاهدين الذين تحدّثت عنهم الآية القرآنية “ومن المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه”، وغُنيت له أغنيات وأهازيج شعبية عديدة، من آخرها: “إحنا رجال محمد ضيف.. حط السيف قبال السيف”. وما أكسبه مصداقية التزامه التزهّد بالحديث الإعلامي، والصدقية، فعندما يهدّد يطبق، كما فعل قبل عامين ونيف حينما قال، عشية “سيف القدس” في مايو/أيار 2021، إن إسرائيل ستسدّد ثمناً باهظاً على انتهاكاتها في القدس المحتلة.

قطيف البرقوق

 في إحاطته، اليوم، رفضَ الناطق العسكري الإسرائيلي دانئيل هغاري التطرّق للموضوع، مكتفياً بالقول: “إننا لا نبحث عن صورته، بل نبحث عنه لنقتله”.

الناطق العسكري الإسرائيلي: لا نبحث عن صورة الضيف، بل نبحث عنه لنقتله

لكن مختلف وسائل الإعلام العبرية تناولت الصورة، ونشرتها بعدما شطبت منها صورة رجل آخر لجانبه يقال إنه مساعده.

ويبدو أن هناك عدة عوامل خلف الانشغال الإسرائيلي الإعلامي المفرط في صورة محمد الضيف، أولها حقيقة كونه قيادياً عسكرياً بارزاً في قمة القيادة الحمساوية، في العقود الأخيرة. له قدرة على التفكير والتخطيط الإستراتيجي. كذلك فإن محاولات إسرائيل الفاشلة المتكرّرة لاغتياله، خاصة بعد عمليات “حماس” في العمق الإسرائيلي، ثأراً لاغتيال يحيى عياش قد ساهمت في تحويله لأسطورة تسترعي الاهتمام، وتشعل الفضول، وحب الاستطلاع لمعرفة “طائر الفينيق” من غزة، الذي نجا وانتصب من الرماد مرة تلو المرة وما زال يهدد إسرائيل.

في محاولة الاغتيال الفاشلة الأولى كان محمد الضيف شارك بقية قيادة “حماس” في اجتماع تمّ داخل الطابق الأول في واحدة من عمارات حي الرمال في غزة، في السادس من أيلول/سبتمبر 2003، لكن الصاروخ الذي أطلقته طائرة إسرائيلية، بزنة ربع طن ديناميت، قد استهدف الطابق الثالث، فنجا المستهدفون في هذه العملية التي أسماها جيش الاحتلال “قطيف البرقوق”، ومن وقتها لم تتوقف المحاولات التي أصابت الضيف بجراح.

تنافر معرفي

بالإضافة للصورة الأسطورية التي تلفها الضبابية، بسبب اختفائه عن الأنظار، وتزهّده في الظهور علانية، وندرة صوره الإعلامية (آخر صورة له نشرت عمرها 30 سنة)، فإن هذا الاهتمام الإسرائيلي الواسع يعود لاتهامه إسرائيلياً بالتخطيط للضربة الإستراتيجية “طوفان الأقصى”. وما زاد هذا الانشغال الإسرائيلي به هو الكشف، قبل أسبوع، عن أشرطة فيديو( قال جيش الاحتلال إنه عثر عليها خلال التوغّل البري) تظهر أن الضيف بصحة جيدة، ويسير على قدميه مع عرج بسيط، ويحرّك يديه بشكل طبيعي بخلاف التقارير الاستخباراتية والإعلامية عن تحوّله، منذ سنوات، لشخص معاق لم يتبق منه سوى عين ويد، ما أطلع الإسرائيليين على إخفاق استخباراتي جديد، يضاف للفشل الذريع في السابع من أكتوبر.

يظهر الفيديو، الذي لم ينشر، ونُشر حول ما فيه، الضيف وقد بدا متقدّماً بالعمر، وهو يدخل مكتبه في جباليا محاطاً بحراس، حتى يجلس على مقعده، وهذا زاد حالة الإحباط والغضب على قصور المؤسسة الاستخباراتية، التي تبيّن أن “يدها الطولى” ليست طويلة دائماً، وأن يدها قصيرة وعينها ليست بصيرة.

مثل هذه الصور والفيديوهات لمحمد الضيف، تزامناً مع حرب طالت، وفشلت في اغتيال قيادة “حماس” وتدميرها، وفي تحقيق بقية أهدافها، تترك مفاعيل كبيرة في نفوس الإسرائيليين، لأنها تنتج ما يعرف بعلم النفس بـ “التنافر المعرفي”، “ديسونانس”.

المراوحة في المكان

 وهذا يرتبط برغبة معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية المتنافسة على سعة الانتشار لنشر “صورة مثيرة”، بعدما حوّلت إسرائيل الضيف والسنوار ومروان عيسى وغيرهم لرموز، وكأن استشهادهم يعني انتصارها، وربما يمنحها مخرجاً لإنهاء الحرب التي باتت مكلفة.

 عُرف بـ “الضيف” بسبب حذره وزياراته القصيرة للبيوت، وكأنه ضيف يأتي وما يلبث أن يغادر. عنده؛ الزيارة غارة

 ويرسل الجيش، من خلال معلقين عسكريين، رسائل تحذّر من حالة “المراوحة في المكان”، ومن التورّط بحرب استنزاف.

كانت إسرائيل تأمل، وما تزال، بنجاحها في وضع يدها على  الضيف وهؤلاء القادة الرمزيين كي تفوز بصورة انتصار، تمنحها فرصة للانتصار في المعركة على الوعي، وعلى الإسرائيليين والفلسطينيين، في ظل فشلها في تحقيق أهداف المعركة الفعلية، العسكرية، في الميدان.

وبدأ اهتمام إسرائيل بالمعركة على الوعي منذ قامت، فعقيدتها الإستراتيجية، التي وضعها مؤسسها الأول دافيد بن غوريون، تقوم على ثلاثة أركان: ردع العدو، إنذار مسبق لما يقوم به، وحسم المعركة معه، وبسرعة. والركن الأول (ردع العدو) يقوم على احتلال وعيه من خلال أفعال وأقوال وصور، كصور أسرى عرب عراة حفاة يرفعون أياديهم فوق رؤوسهم في حرب 1967.

وقبل عقد، أضيف ركن رابع لهذه العقيدة الأمنية، هو الجبهة الداخلية، بمعنى الحفاظ على حصانة ومعنويات الإسرائيليين خلال الحروب، من أجل مساندة الجيش فيها، رغم الخسائر الموجعة، على أساس أن هذه “حربٌ حتمية فرضت علينا”. ولذا تحاذر المؤسسة العسكرية، ومعها وسائل الإعلام العبرية، اليوم، في نشر عدد وصور الجنود القتلى والجرحى. وطيلة شهور، على سبيل المثال، تمّ إخفاء حقيقة إصابة نحو 5000 جندي، نصفهم يعرفون رسمياً كمعاقين، علاوة على الكشف عن الخسائر بالتقسيط، وبحذر، تحاشياً للمساس برأس المال الاجتماعي. في المقابل تكرّس جهود كثيرة لتعزيز مناعة وحصانة الإسرائيليين، وكلما استشعر قادة المستويين السياسي والعسكري تراجعاً بمنسوب المناعة هبّوا لرفعه بطرق شتى. ووجد رئيس إسرائيل يتسحاق هرتسوغ، قبل أيام، نفسه يكتب على قذيفة قبل إطلاقها على غزة “نعتمد عليكم”، مخاطباً جنوداً يقهقهون في محيطه.

الثورة الرقمية

 وزاد الاهتمام الإسرائيلي بالمعركة على الصورة كجزء من المعركة الكبرى على الوعي والرواية بعدما تفجّرت قبل عقدين الثورة المعلوماتية والرقمية، وسهولة تناقل مشاهد حربية بمنتديات التواصل الاجتماعي بشكل حيّ ومباشر، دون قدرة الرقيب العسكري على منعها.

وجد رئيس إسرائيل نفسه يكتب على قذيفة قبل إطلاقها على غزة “نعتمد عليكم”، مخاطباً جنوداً يقهقهون في محيطه

وكانت التجربة الموجعة الأولى التي اكتوت بنارها المؤسسة الإسرائيلية في نطاق المعركة على الوعي، هي حرب لبنان الثانية، عام 2006، التي أظهرت للمرة الأولى سرعة نشر مشاهد القتال من الجانبين. وهذا ما يفسر إرسال الجيش بتعليمات من وزير الأمن، وقتها عمير بيرتس، بعض الجنود، في اليوم قبل الأخير من الحرب، لأحد بيوت بلدة بنت جبيل في جنوب لبنان لرفع راية إسرائيلية على سطحه، طمعاً بصورة انتصار طال البحث عنها، دون جدوى، لكن جنود “حزب الله” أطلقوا النار عليهم، وتسبّبوا بقتل وإصابة القوة، ما فتح نقاشاً واسعاً لاحقاً داخل إسرائيل.

في تلك الحرب نجح “حزب الله” في كسب تلك الحرب على الوعي، بفضل اعتماده منهجية علمية تعتمد الصدق، وتتحدث بلغة رقمية متطورة في هذا المضمار، بلغت ذروتها في صورة ضرب البارجة العسكرية الإسرائيلية، ودعوة نصر الله للخروج لشرفات البيوت ومشاهدتها وهي تحترق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية