العرب يتطلعون لنظام إقليمي ودولي يحمي بقاءهم!

حمى التدخل في شؤون الدول غير الغربية تجتاح العالم، وليس هناك مكان في العالم ليس عُرضة للتدخل بَرعاية النظام العالمي الراهن، ويتمادى في تغيير الجغرافيا؛ بغزو وعدوان لا يتوقف، وأضحت الصحة السياسية والنفسية لعالم ما بعد الحرب الباردة معتلة، وتعاني من اضطراب، وتيه دائم، من جراء تدخل مستمر غير مشروع وغير مبرر، وصاحب ذلك ظواهر لعبت دورا في انتصارات متتابعة للقوى «الصهيو غربية» التي لا تجد من يكبحها، ومن المتوقع أن تكون تلك القوى ضحية لأفعالها وتصرفاتها، فقد تجاوزت الحدود وتخطت كل منطق، وتفوقت على ما قامت به الفاشية والنازية فيما قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها.
وانحازت القوى الصهيو غربية إنحيازا أعمى للتمييز العنصري والاستيطان، وتمادت في دعمه؛ ووصل ذلك لأقصى مداه في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، واستمر على دربه الرئيس الحالي جو بايدن، فيقف مع سلب حق الحياة من الفلسطينيين لحساب المستوطنين، وما زال وفيا لصهيونيته، التي اعتنقها مبكرا بما تحوي من عنصرية وعداء للبشر من غير الصهاينة، وذلك كاف لتبرير أعمال المنتمين لتلك القوى؛ حين تقوم بتمويل ودعم كل أشكال وصور الاستيطان والفصل العنصري، واستعادت تاريخها وتراثها الدامي الطويل، وقد نفد رصيد رموزها الكبار، الذين شاخوا وشاخ معهم نظام دولي معتل وسقيم، ويحقنونه بمقويات اقتصادية ومالية وعسكرية ونووية، ويَحُولون دون ظهور نظام عالمي بديل؛ سليم ومعافى؛ أكثر عدلا وأوفر أمنا، ورغم طول المعاناة، وتعامل القوى الصهيو غربية بالحديد والنار مع المشاكل السياسية والاجتماعية والعسكرية الناجمة عن انتصارات لها ولروافدها العنصرية والاستيطانية.
وتلك تداعيات انتصارات حققتها واشنطن، مع ما رافقها من توابع انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وهو ما اعتبر بمثابة انتصار في حرب عالمية ثالثة، وكانت بطبيعتها حربا باردة؛ لكنها فاقت في نتائجها وعنفها كل التوقعات، وأضحى الالتزام بالمبادئ الصهيونية؛ ومحتواها العنصري أساسا لموبقات العصر وجرائمه؛ من تعصب طائفي، وانقسام مذهبي، ونزوع انعزالي، وولاء عشائري، بكل ما ترتب عليه من اختلالات كبرى لموازين القوى الإقليمية والدولية.
ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق والتبشير لا يتوقف بنظام عالمي جديد؛ تُرِك مبهما دون تحديد وبلا مواصفات؛ ولم يقترب أحد من مبادئ الحرية والحق والمساواة والسلام القائم على العدل؛ الذي لا يفرق بين أبيض وأسود، أو بين أصفر وأحمر، أو بين مُعتقد وآخر؛ خارج السياق الصهيوني؛ وبعيدا عن «الدين الإبراهيمي» الجديد!!.
وزاد الإلحاح على ذلك النظام الجديد من تسعينيات القرن الماضي، بأن أبقى على جوهر النظام القديم، وكأن التغيير الذي جرى لا يعدو تحويل البوصلة من العداء للشيوعية والاتحاد السوفييتي السابق؛ إلى عداء حركات التحرير، والاستقلال الوطني، وضد تطلع الإنسان للحرية والديمقراطية الحقيقية، والعيش الكريم، وتحقيق السلام في عالم يخلو من الحروب؛ ويتجنب الفتن ويمنع التأليب على الاقتتال الأهلي والحروب البينية، ويتوقف عن تغيير الخرائط، وافشال الدول، وتقسيمها وتهجير سكانها قسرا من ديارهم (الشعب الفلسطيني مثلا) وإبعأدهم إلى أماكن نائية تقطع صلتهم بموطنهم الأصلي.
وتفاقمت وتيرة السلب والنهب للمعادن والثروات، وعاد الاستعمار إلى أبشع مما كان عليه، ومعه «القتلة الاقتصاديون» وقد أضحى لهم وجود ملموس، واستنسخوا الممارسات الاستعمارية والاستيطانية، ونما التعاون الشيطاني بين أولئك القتلة، وغالبيتهم العظمي تحمل جنسيات أمريكية وبريطانية وألمانية وفرنسية وإيطالية وأسبانية وبلجيكية وهولندية وتوابعها، وتوسعوا فى الهيمنة والاحتلال الناعم لدول وشعوب، وهدم ما لديها من حضارات وثقافات وتراث وقيم، واستبدالها بأخرى ذات مرجعية صهيو غربية؛ استيطانية، عنصرية، دموية، إحلالية.

لو عادت الروح للعرب لأضحوا قوة كبرى؛ مؤثرة وفاعلة، وذات باع في تأسيس وبناء نظام عالمي جديد لا يستمد قيمته من القيم العنصرية الاستيطانية، وتمكنوا من ذلك تاريخيا في النصف الثاني من القرن الماضي

وتحت المظلة الصهيونية نشطت المسيحية الصهيونية وقويت، وأستردت الفاشية والنازية اعتبارها وعافيتها، واستمر التبني الغربي للصهيونية والدفاع عنها، وبعد أن كانت مسألة ومشكلة وعقدة أوروبية اتسعت وتمددت، وتم تصديرها للشرق، فحين تحدث ثيودور هرتزل؛ مؤسس الحركة الصهيونية عن إنشاء دولة يهودية بضمان القانون الدولى، وكان يعني القانون الغربي الليبرالي الاستيطاني للتحكم في العالم، وتقسيمه حسب مصالحه ومصلحة قومه ورؤيتهم، وأبتليت «القارة العربية» بهذه الكارثة التي لم تخرج عن وظيفتها التي تجيدها في التفرقة والتجزئة والتخريب، وهكذا صارت.
ونترك فلسطين بما حدث فيها وجرى لها ونتجه إلى العراق؛ بداية من غزو الكويت (1990ـ 1991) وتعامل «الشرعية الدولية» للنظام العالمي القديم مع الأزمة بحصار وتجريد العراق من ثرواته وسلاحه وقدرات علمائه وخبرائه ومهنييه والتخلص منهم واحدا واحدا، وتصفية الدولة العراقية المركزية، وتقسيمها وتوزيعها على طوائف ومذاهب وأعراق، وأضحى العراق فسيفساء وكانتونات مسلوب القدرة، متآكل داخليا، ومحاصرإقليميا ودوليا، ولن يستطيع استعاده دوره وعافيته لسنوات طويلة مقبلة، وقد لحقت به سوريا وكانت قلب العروبة النابض، ثم ليبيا وتونس ولبنان وباقي دول «القارة العربية» في الطابور في إنتظار دورهم، والحبل على الجرار، وهذا هو المخطط الصهيو غربي الذي لا يؤتمن، واكتسب إلى صفوفه حكاما خليجيين فضلوا الانتحار عن اكتشأف مواطن القوة الكامنة في «القارة العربية» التي لا تحتاج غير وحدة الكلمة والصف والموقف.
وصارت نوايا وخطط القوى الصهيو غربية، ونظرتها للعرب؛ ومن على شاكلتهم؛ تنطلق من وضع الدولة الصهيونية في كفة وباقي العالم في الكفة المقابلة، وضمن ذلك السياق؛ فالقوى الصهيو غربية تنفرد بقيام نظام عالمى جديد؛ يمَكِّنها من إدامة الهيمنة والسيطرة، وإذا ما نجحت، فذلك يعنى الإصرار على عدم نهوض أي دولة عربية، وإذا ما ثبت أن هناك من سعى منها للنهوض والوقوف على قدميه، وحقق استقلاله، وبنى نفسه بعيدا عن قيود وهيمنة القوى الصهيوغربية، فمن المتوقع ألا يختلف المصير عن مصير فلسطين والعراق وسوريا وليبيا وباقي دول «القارة العربية» الموضوعة على قوائم انتظار التدخل والحصار والغزو!
والقوى الصهيو غربية ضمنت للدولة الصهيونية القوة المطلقة، وساعدتها في نشر ثقافة الإذعان والاستسلام مع كل خطوة تطبيع وصهينة جديدة؛ تقترف من قِبَل مسؤولين خليجيين وغير خليجيين، ممن أعتنقوا «الدين الابراهيمي» ومارسوا شعائره، ودعوا لنشره، وهو المصمم لتهويد وصهينة من يقع في فخه من عرب وعجم، ويروجون له، ولـ«الشرق الأوسط الجديد»؛ المنوط به دمج الدولة الصهيونية ومنحها السيادة على «القارة العربية»؛ وفرض وضع الاقتصاد في مرتبة أعلى من الهوية، و«السوق الشرق أوسطي» لتعزيز «الدين الإبراهيمي» وهو من أغرب الأديان التي لم يبشر بها نبى أو دعى إليها رسول، وخرج من أقبية ودهاليز المخابرات الأمريكية والمخابرات الصهيونية (الموساد)!!.
ولو عادت الروح للعرب لأضحوا قوة كبرى؛ مؤثرة وفاعلة، وذات باع في تأسيس وبناء نظام عالمي جديد لا يستمد قيمته من القيم العنصرية الاستيطانية، وتمكنوا من ذلك تاريخيا في النصف الثاني من القرن الماضي، وتحديدا في خمسينياته وستينياته، فحملوا لواء التحرر العربي والأفريقي والآسيوي، واللاتيني، أما الانحياز الغربي، بقيادة الولايات المتحدة ودور رئيسيها السابق والحالي وقيادتهما للقوى الصهيو غربية؛ هو إنحياز ضد العرب والمسلمين، وكل الدعم السـياسي والاقتصادي والعسكري المستمر هو من أجل مواجهة العرب والمصادرة على حاضرهم ومستقبلهم ومستقبل أجيالهم القادمة.
وهذا هو منطق النظام العالمي القديم، والمتوقع استمراره بصيغة جديدة؛ تبقي على وظيفته في تثبيت نظام الفصل العنصري، المؤسس على الأرض الفلسطينية، ويتولى البيت الأبيض الترويج للتوسع الإمبراطوري الصهيوني، وبعد أن كان مشروع دولة صهيونية من الفرات إلى النيل، وما يجرى تنفيذه منذ عصر ترامب وتابعه بايدن هو المشروع الإمبراطوري الصهيوني؛ بحدوده التي تبدأ بدول الخليج وتنتهي بالمغرب على المحيط، ومن أجله تتجزأ «القارة العربية» إلى كيانات ومعازل انفصالية ومستوطنات صهيونية، تطمس ثقافة العروبة الجامعة، وعلى أي عربي أن يتطلع عبر حدوده؛ ليتواصل مع أهله وأشقائه في القارة العربية، فانكماشه وحصره داخل حدوده القطرية المصطنعة فيه فناء وموت محقق إن آجلا أو عاجلا!!

كاتب من مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول تيسير ابوسمية:

    دول العالم الثالث ، اي ليسوا اول ولا هم ثاني، اصبحوا بعد الحرب العالمي الثانية مطية لدول الغرب اي العالم الاول الذي قسم الدنيا لدويلات يستلمون ثرواتها ويستعبدون شعوبها تحت سمع وبصر حكام سلاطين ظلمة نصبوها على الشعوب المغلوبة على امرها لتكون الحارس الامين على مصالحها مما حال دون تطور هذا القطاع من الناس ليبقوا عبيدا او منافقين للسلاطين .

إشترك في قائمتنا البريدية