العراق: التعذيب بوصفه ممارسة طبيعية!

إن متابعة التقارير الخاصة بأوضاع بالمحتجزين والمحكومين في السجون العراقية تكشف عن عشرات الدلائل عن حجم الانتهاكات المتعلقة بالتعذيب، ولا تبدو الجهات المسؤولة عن مراكز التوقيف أو السجون حريصة على إخفاء جرائمها؛ فكثيرا ما يتم إطلاق سراح هؤلاء وآثار التعذيب ظاهرة على أجسادهم، أو يتم تسليم جثثهم لأهليهم وعليها آثار تعذيب. ويقف الشعور بعدم الجدوى، والخوف من الانتقام، والثقافة الخاصة بماهية الدولة بوصفها «قوة قاهرة» حائلا دون تقدم هؤلاء بقضايا ضد (معذبيهم) هذا إذا افترضنا وجود إمكانية حقيقية لملاحقة ومقاضاة القائمين بالتعذيب أصلا, كما سنرى، علما بأن جرائم التعذيب لا تسقط بالتقادم كما يفترض، ولا يمكن التغاضي عن المسؤولية الضمنية للمسؤولين غير المباشرين عنها.
تعرف اتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984 في المادة 1 التعذيب بأنه: «أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسديا كان أم عقليا، يلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص، أو من شخص ثالث، على معلومات أو على اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه، هو أو شخص ثالث، أو تخويفه أو إرغامه هو أو أي شخص ثالث، أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز أيا كان نوعه، أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية). وتنص المادة 2 على انه «لا يجوز التذرع بأية ظروف استثنائية أيا كانت، سواء أكانت هذه الظروف حالة حرب أو تهديدا بالحرب أو عدم استقرار سياسي داخلي أو أية حالة من حالات الطوارئ العامة الأخرى كمبرر للتعذيب». كما إن المادة 4 تتطلب أن تكفل الدولة اعتبار كل عمل من أعمال التعذيب، جرائم بموجب قانونها الجنائي. وتفرض المادتان 12 و 13، من الاتفاقية، على الدولة كفالة تقصي الشكاوى بشان وقوع أعمال تعذيب أو معاملة أو عقوبة قاسية أو لاإنسانية أو مهينة على السواء. وتكفل المادة 14 تمتع الضحايا بحق واجب التنفيذ في التعويض عادل ومناسب.
لقد حرّم الدستور العراقي الدائم في المادة 37 / ج «جميع أنواع التعذيب النفسي والجسدي والمعاملة غير الإنسانية» ونص على أنه «لا عبرة لأي اعتراف انتزع بالإكراه أو التهديد أو التعذيب، وللمتضرر المطالبة بالتعويض عن الضرر المادي والمعنوي الذي أصابه، وفقا للقانون». وأقرّ مجلس النواب قانون الانضمام إلى اتفاقية مناهضة التعذيب هذه، وصادق عليها مجلس الرئاسة في العام 2008، مع ذلك لم ينتبه المشرع العراقي أثناء كتابة النص الدستوري على عدم وجود مادة قانونية في قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل تنسجم مع النص الدستوري، ومن هنا كان على المشرع أن يضع عبارة «وينظم ذلك بقانون» بدل عبارة «وفقا للقانون» الواردة في المادة الدستورية!
إن قانون العقوبات النافذ، وتحديدا في المادتين 332 و 333، يعاقب بالسجن أو الحبس كل موظف أو مكلف بخدمة عامة عذب أو أمر بالتعذيب أو استعمل القسوة، إلا أن العقوبات المنصوص عليها تبدو مخففة إلى حد بعيد، وغير رادعة بالمرة،. فالمادة 332 تنص على «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة وبغرامة لا تزيد على مائة دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين: كل موظف أو مكلف بخدمة عامة استعمل القسوة مع احد من الناس اعتمادا على وظيفته فأخل باعتباره أو شرفه أو احدث ألما ببدنه وذلك دون الإخلال بأية عقوبة اشد ينص عليها القانون». وتنص المادة 333 على «يعاقب بالسجن أو الحبس كل موظف أو مكلف بخدمة عامة عذب أو أمر بتعذيب متهم أو شاهد أو خبير لحمله على الاعتراف بجريمة أو للإدلاء بأقوال أو معلومات بشأنها أو لكتمان أمر من الأمور أو لإعطاء رأي معين بشأنها. ويكون بحكم التعذيب استعمال القوة أو التهديد». وكما هو واضح فان النصوص القانونية النافذة لا تجعل «استعمال القسوة» تعذيبا، من هنا فالعقوبة مخففة جدا، أما في المادة الثانية فهي تعاقب «بالحبس أو السجن» وهذا يعني أنه هناك إمكانية للتعامل مع التعذيب بوصفه جنحة وليست جريمة، وقد جاءت العقوبات من دون أي تحديد، أي أن العقوبة تتراوح بين ثلاثة أشهر وخمسة عشر عاما! وهذا يعني أن المادتين بصيغتيهما الحالية قابلتان للتأويل المفرط، وبالتالي هناك إمكانية للإفلات من العقوبة الرادعة.

إن مراجعة التقارير المحلية والدولية المتعلقة بالتعذيب في العراق تكشف عن حجم هذه المشكلة المسكوت عنها بشكل عام

ولا يقف الأمر عند ذلك، فقانون العقوبات يتضمن نصوصا أخرى يمكن أن تكون قابلة للتأويل المفرط، ومن شأن هذا التأويل أن يضيّع معالم واقعة التعذيب نفسها؛ فالمادة 41 مثلا تنص على أنه «لا جريمة إذا وقع الفعل استعمالا لحق مقرر بمقتضى القانون» ومن هذه الأفعال ما جاء في رابعا: «أعمال العنف التي تقع على من ارتكب جناية أو جنحة مشهودة بقصد ضبطه)». فهذه المادة تتيح للقائمين بضبط المتهم الإفلات من العقاب تجاه أي ممارسة عنيفة أو حاطة بالكرامة. خاصة ونحن بإزاء ممارسات منهجية وعامة تبين أن جميع الاعتقالات تترافق مع سوء المعاملة المهينة بالكرامة الإنسانية، وعادة ما تكون مصحوبة بالعنف اللفظي والجسدي.
ولا يقتصر الأمر على قانون العقوبات؛ فقانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 يتضمن كذلك العديد من المواد التي يمكن عدها إشكالية فيما يتعلق بجرائم التعذيب، على سبيل المثال لا الحصر فان المادة 3/1 تحدد الجرائم التي لا يجوز تحريك الدعوة الجزائية إلا بناء على شكوى من المجني عليه أو من يقوم مقامه قانونا، ومن هذه الجرائم: «التهديد أو الإيذاء» وتأتي المادة 6 لتقرر عدم قبول الشكوى «بعد مضي ثلاثة أشهر من يوم علم المجني عليه بالجريمة أو زوال العذر القهري الذي حال دون تقديم الشكوى ويسقط الحق في الشكوى بموت المجني عليه ما لم ينص القانون على خلاف ذلك». والمادة 8 لتقرر إنه «إذا اشترط القانون لتحريك الدعوى الجزائية تقديم شكوى فلا يتخذ أي إجراء ضد مرتكب الجريمة إلا بعد تقديم الشكوى ويعتبر المشتكي متنازلا عن شكواه بعد تقديمها إذا تركها دون مراجعة مدة ثلاثة أشهر دون عذر مشروع، ويصدر قاضي التحقيق قرارا برفض الشكوى وغلق الدعوى نهائيا». وهذه النصوص تخالف بشكل صريح فلسفة المادة الدستورية، واتفاقية مناهضة التعذيب. وهي تفرغ المادة الدستورية من محتواها!
يرتبط بهذا الأمر الرفض المنهجي لانضمام العراق إلى نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية عام 1998، التي تصنف التعذيب ضمن الجرائم ضد الإنسانية، ومن ثم يقع ضمن اختصاصاتها النظر فيها. وما نشهده أيضا من حرص على إنكار دعاوى التعذيب بشكل منهجي، وما نجده من عدم صدور أية أحكام حقيقية في قضايا التعذيب، وما لاحظناه من إخفاء منهجي لنتائج أية لجان تحقيقيه بهذا الصدد، على فرض جديتها طبعا، وأخيرا ما نعرفه عن اعتماد القضاء العراقي على الاعتراف عوضا عن الأدلة في إصدار الأحكام.
إن مراجعة التقارير المحلية والدولية المتعلقة بالتعذيب في العراق تكشف عن حجم هذه المشكلة المسكوت عنها بشكل عام. وقد جاء في تقرير هيومان رايتس ووتش المعنون «قضاة يتجاهلون مزاعم التعذيب» الصدر في تموز/ يوليو 2018 أن المنظمة قامت بمراجعة 30 قضية بين عامي 2008 و2009 زعم فيها المتهمون تعرضهم للتعذيب، رفض فيها القضاة الرد بأي شكل من الأشكال على هذه الادعاءات في 22 قضية منها! وفي الأخرى أمر القاضي بإجراء فحص طبي ووجد آثار التعذيب «لكنه لم يأمر بالضرورة بإعادة المحاكمة او التحقيق، أو مقاضاة الضباط والعناصر المسيئين»! وتنقل المنظمة واقعة أخرى كانت فيها شاهد عيان: «في يوليو/تموز 2018، أخبر أحد المتهمين القاضي في محكمة الجنايات المركزية ببغداد بأنه تعرض للتعذيب لانتزاع الاعتراف منه، لكن القاضي تجاهل شكواه، حسب مراقبين مستقلين في المحكمة. قال المتهم إن الشرطي الذي عذبه أجبره على التوقيع على اعتراف وهو معصوب العينين ومقيد اليدين. ومع ذلك رفض القاضي طلبه السماح له بأن يبرهن له بأن توقيعه الحقيقي مختلف تماما. قال أحد المراقبين: «لم يُبد القاضي أي استجابة للالتماس، فقط أدانه وحكم عليه بالإعدام»!
التعذيب في العراق «ممارسة طبيعية» يتعرض لها المواطن بشكل «تلقائي» حين يكون في مواجهة ممثلي السلطة، بمختلف مسمياتهم وتوصيفاتهم، سواء كانت هذه الممارسة عنفا لفظيا أو جسديا، وهو نتاج لثقافة «مماهاة» بين السلطة وممثليها المسؤولين عن إنفاذ القانون، والسلطة نفسها، عبر قوانينها، وعبر سلوكها، تكرّسُ هذه الممارسة/ الثقافة من خلال إنكارها، أو السكوت عنها، أو توفير الحصانة للقائمين بها!

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    جرائم التعذيب لا تسقط بالتقادم!
    المشكلة هي بتعدد المسؤولين المباشرين عن جرائم التعذيب بالعراق الآن!!
    معظم الشعب العراقي يترحم الآن على أيام صدام!!! ولا حول ولا قوة الا بالله

إشترك في قائمتنا البريدية