الطبيب الفلسطيني عدنان يحيى يروي وقائع من مجزرة الطنطورة ويرسم ملامح حياتها قبل النكبة- (فيديو)

حجم الخط
0

الناصرة- “القدس العربي”:

ولد الدكتور عدنان يعقوب يحيى في الطنطورة عام 1930، وتعلّم في مدرستيها، ومنها انتقل إلى عكا وحيفا لاستكمال الثانوية، لكن النكبة قطعت مسيرته التعليمية، واعتقلته إسرائيل وهو فتى يافع، واعتبرته “أسير حرب”، وبقي في سجونها مدة عام ونيّف، وخبِرَ مذاق التنكيل على أنواعه، لكنه بإرادته الفولاذية نهض من الرماد، وهو اليوم طبيب متقاعد في ألمانيا، وحباه الله بذاكرة من حديد.

على جناحي هذه الذاكرة الخضراء يصطحب الطبيب الفلسطيني “القدس العربي” وقراءها إلى “أجمل قرية في الكون”، من خلال حديث هاتفي معه، من مكان إقامته في منطقة فرانكفورت الألمانية. وبدأنا الحديث معه بالسؤال:

أنت مقيم في بلدة “شوالم شتات”، بين فرانكفورت وكاسيل، فمَن أجمل؟ هي أم الطنطورة؟ فسارعَ للقول جازماً: “من دون عواطف، الطنطورة بلدي أجمل قرية في العالم. ولدتُ فيها في 12 أكتوبر 1930، وحالي بخير ونحمد الله، وقلبي كبير، رغم ضعفي وكبر سني. والدي عقاب يحيى، الله يرحمه، تزوجَ أربع نساء، لكنه لم يجمع بينهن في ذات الوقت، بل تباعاً. وأمي، الله يرحمها، بهية الحوري، وأصلها من بيروت.

حتى اليوم لا أخلد للنوم في الليل إلا وتأتيني الطنطورة ويرفرف طيفها في خيالي، فهي تسكن في وجداني وخاطري، كيف لا وهي وطني الأول، وواحدة من جنات الله على الأرض قولاً وفعلاً.

والدك عقاب، وعند اسمه، ورجل مزواج، لكنك تزوجت مرة واحدة؟

والدي اضطر للزواج عدة مرات بعدما توفيت الزوجتان الأولى والثانية، والثالثة لم تنجب، ووالدتي الرابعة. تزوجتُ سيدة ألمانية، رحمها الله. والدي كان ملّاكاً كبيراً، يملك نحو ألف دونم في سهل الطنطورة، اعتاد على زراعتها بالحبوب والبطيخ والبصل والخضروات والكروم وبساتين التين والموز. إقطاعي، وحالتنا المادية ممتازة، وامتلكنا داراً في شارع عباس في حيفا، اعتدنا على المبيت فيها خلال تعلّمنا فيها، فنحن 17 أخاً وأختاً، درسَ كثيرون منهم في عروس الكرمل، وكذلك عمي المحامي، أقام قريباً منّا في حيفا، فقد عمل فيها بعدما أنهى دراسته في كلية الحقوق في القدس في فترة الاستعمار البريطاني.

يحيى: حتى اليوم لا أخلد للنوم في الليل إلا وتأتيني الطنطورة، ويرفرف طيفها في خيالي، فهي تسكن في وجداني وخاطري.

وهل تتكرم باصطحابنا برحلة إلى الطنطورة قبيل نكبتها في مايو/ أيار 1948، ولماذا تعتبرها أجمل القرى العالم؟

الطنطورة واحدة من بنات حيفا، وتقع على بعد 28 كيلومتراً جنوبيها، وجاراتها كفرلام والفريديس وقيسارية وجسر الزرقاء وزمارين. مختار الفريديس إسماعيل برية هو زوج شقيقتي، قامت بيوتها على ساحل البحر المتوسط، وأمامها عدة جزر صغيرة، وميناء ورمال شطآنها كأنها فضة. قبل الاحتلال كان اليهود يأتون في مراكبهم للسباحة في ساحل الطنطورة وكنا نلهو مع أطفالهم. بلغ تعدادها نحو 1500 نسمة، وينتمون لعدة عائلات منها يحيى، المصري، دقناش، الدسوقي، وطه، وغيرها.

مصادر عملهم؟

عمل والدي بالزراعة، وكان يملك جراراً لحراثة للأرض (تراكتور)، وامتلك أيضاً مطحنة حبوب، وكان يسامح من لا يملك الفلوس، فالحمد لله حالته ممتازة. اعتقله الإنكليز عام 1928 لمدة عام، بتهمة مساعدة ثوار الثورة الفلسطينية الكبرى، وفعلاً؛ كانوا يأتون إلى بيتنا خلسة، ويحصلون على دعم مالي ويجرون مشاورات. وقتها داهمتنا قوة بريطانية، ووالدي معتقل، فتشوا البيت، وأذكر كيف سرق ضابط بريطاني ساعة يد ذهبية تتبع والدي. حاولوا أن يستجوبوني أنا وأخي، كي نقدم شهادة ضد والدي بأنه يساعد الثوار، فرفضنا. زرع أهالي الطنطورة مساحات واسعة من البطيخ، الذي كان يتم مراكمته بأكوام كبيرة على الساحل في الموسم، قبل أن يشحنه لبيروت في سفن. وفي طفولتنا كنا نعوم في البحر، ونسرق بطيخاً من السفن اللبنانية المحملة بالبطيخ الذي نبيعه، ونلوذ لواحدة من الجزر الصغيرة مقابل ساحل الطنطورة، ونستمتع بتناولها وبمذاقها الطيب، علاوة على نقله بشاحنات لحيفا ويافا والقدس. كما زرع والدي الموز. في 2002 زرتُ الطنطورة بجواز سفر ألماني، ومعي بعض الأطباء الزملاء الألمان، فتناولت حبة موز من بيارة هناك، فاستغرب طبيب ألماني وقال: هذه سرقة يا عدنان. فقلت له: بحال سألني يهودي وتحدث بكلمة واحدة، سأقول له هذه بيارتنا والموز موزنا. زرعوا التفاح والتين أيضاً، بالإضافة للخضروات، خاصة الخيار المزروع بالريّ بماء الآبار حيث كانت الطنطورة تصدره للمدن الفلسطينية.

وصيد الأسماك؟

صيد الأسماك هو مورد مهم، وموسم آخر، السردينة إلى جانب موسم البطيخ. كان صيادو الطنطورة يصطادون يومياً أنواعاً من الأسماك: البوري، عريّس، ومشط، ودهبي، وقبانة، وغيره. كذلك كان هناك موسم السردينة فقد كانت القوارب من بلدات جنوب فلسطين تأتي لتصطاد ليلاً أفواج السردين الذي يأتي بكميات كبيرة من البحر المتوسط لساحل الطنطورة مرة في السنة. جرى الصيد بالشباك، وفي كل قارب استخدم الصيادون “اللوكسات” للإنارة واجتذاب السردين. وكان مشهد الصيد مدهشاً حيث عادت القوارب في الصباح محملة بالسردين، ويصدرونه للبلدات الأخرى. كنت أذهب مع صحن أو طنجرة لأشتري السردين، وكان الصيادون يمنحونا إياه دون مقابل. وعملتْ عائلات كثيرة من الطنطورة في فرع صيد السمك كمصدر رزق لها.

بين حيفا ويافا هناك سبعة موانئ صغيرة، فبماذا تميّز ميناء الطنطورة؟

أجمل الموانئ. فهو خليج طبيعي تكوّن بفضل انتشار الجُزر الصغيرة مقابل السواحل. كانت السفن التي أسموها “بوغاز” ترسو في ميناء الطنطورة بعد إلقاء المرساة الحديدية. هناك قوارب صغيرة كانت تشحن البطيخ للسفن الكبيرة القادمة من لبنان في الصيف. لكننا كنا نقتني ملابسنا وأغذيتنا من حيفا.

وكيف كانت السباحة والمسابح؟

كان اليهود يأتون ويسبحون في الطنطورة، رجالاً ونساء بالمايوهات، ولكن أهالي الطنطورة فصلوا بين المسابح، فالنساء اعتدن على العوم في مسبح “المغسل” شمال البلدة، وهو مسبح مدهش مجاور لجبل البرج بيننا وبين قرية كفرلام، وكانوا يغسلون فيه الخيول أيضاً.

كانت الأعراس تقام على ساحل البحر؟

طبعاً. كانت حفلات الزفاف الشعبية تتم على ساحل الطنطورة، حيث تعتلي العروس الفرس، فيما تتم زفة العريس إلى واحدة من الجزر، ويقدّمون له السجائر والطعام والشراب، وتجري الحفلات على وقع الزامور والشبابة في ساعات المساء. كما أحيا حداؤون شعبيون حفلات ليلية للرجال، إضافة لدبكات الدلعونا، فيما كانت النساء يحتفلن على انفصال. كان الحداؤون يتنافسون في مناظرة بين السيف والقلم مثلاً، وهذا إما على الساحل أو في ساحة المراح في الليالي. كذلك كان أهالي الطنطورة يقضون سهراتهم ليلاً على الساحل خاصة أن البيوت كانت مجاورة للساحل لدرجة أن بيتنا كان ملازماً للشاطئ، والأمواج تصل البيوت في الشتاء، وأحياناً تحاصرنا، وتحول دون التجول في الحي، وبعض المنازل كنت تمدّ يدك من النافذة الغربية فتمسك مياه البحر. وكانت كافة منازل الطنطورة كبيرة ومبنية من الحجر، وهذا دليل ازدهارها الاقتصادي والاجتماعي.

ما أسماء الجزر الصغيرة؟

مقابل بلدة الطنطورة انتشرت خمس جزر صغيرة قريبة جداً من ساحلها: الشدادة، إعمر،الحمام، والفلادية، وهناك شبه جزيرة نسيت اسمها.

بئر النقر.. مياه حلوة داخل البحر. صحيح؟

 حصل أهالي الطنطورة على احتياجاتهم من الماء من بئر في البحر مياهها حلوة، وكانت النساء تحضرن المياه منه بجِرار تحمل على رؤوسهن، ولاحقاً تم مدّ البيوت بشبكة مياه بعد حفر بئر ارتوازي وبناء خزان كبير بجوار المدرسة الجديدة.

مدرسة للبنات ومدرسة للبنين؟

كانت مدرسة البنات موجودة في عمارة الجمرك مقابل الساحل، بينما كانت مدرسة البنين أسفل بيت عمي محمد، ولاحقاً بنوا مدرسة كبيرة على تل شرقي الطنطورة، حيث تمر بجوارها سكة القطار. كان المعلمون محليين، ومعظمهم من خارج الطنطورة، من عكا وصفد وحيفا ويافا. درست حتى الصف السابع، ثم انتقلت لمدرسة عكا الثانوية، وأقمت في القسم الداخلي فيها أنا وشقيقي عبد الرزاق يحيى، الذي صار لاحقاً قائد جيش التحرير الفلسطيني، ووزير الداخلية في السلطة الفلسطينية. بعدما أنهيت الأول الثانوي في عكا، انتقلت للمدرسة الثانوية في حيفا، وفيها أنهيت الثاني الثانوي فوقعت النكبة.

ونحن ثلاثة أشقاء أطباء، إبراهيم، وهو البكر، عمل طبيباً في بيروت. وزهير، طبيب متقاعد، وهو أصغرنا وموجود في كاليفورنيا في أمريكا. وأنا طبيب مختص بالحنجرة والأنف، متقاعد ومقيم في منطقة فرانكفورت ألمانيا.

الليلة الأخيرة في الطنطورة؟

في تلك الليلة شاهدت صورة إجرامية لم أشهدها في حياتي، حيث أيقظتْني والدتي عند الفجر، وهي تقول صارخة: “أجوا اليهود، أجوا اليهود”.

 مشيت مع بقية الناس للطابق الأول في بيتنا، حيث اجتمعت نساء البلاد وأطفالهن فيه، وكان الطابق يستخدم مخزناً للحبوب، ودخل جندي يهودي وأطلق رصاصة في سقف البيت، وانفجر الجميع بالبكاء وسارعوا للتدافع للخروج من الباب الشرقي، وكانت أمي وأخواتي يبكين بصوت عال.

يحيى: في سوريا استقبلونا أحسن استقبال، ولذلك حاولت رد الجميل للشعب السوري، فبعد هجرتهم إلى أوروبا لاجئين، عام 2011، عملت تطوعاً في تعليم العشرات اللغة الألمانية.

أخذونا لساحل البحر في ذاك الصباح، وفصلوا الرجال عن النساء تحت الشمس، دون ماء ولا غذاء، وكان الجنود يأتون تباعاً، ويأخذون الشباب بحجة أنهم يملكون سلاحاً، ويقتلونهم. جاء دوري، فأمرني الجنود بمرافقتهم لمقبرة القرية، وهناك أجبروا رجال الطنطورة على حفر قبور جماعية بالفؤوس والكريكات. لا أنسى ذاك اليوم، فقد أمرني وزميلي في المدرسة عبد الله أبو شكر بالوقوف هناك والقيام بإلقاء جثامين القتلى، وفيما كنت أمسك جثة من قدميه، وعبد الله من يديه، صاح عبد الله قائلاً: يا عدنان هذا والدي. وقد تنبهنا أنه كان ما زال في نزعه الأخير، ولم يكن أمامنا من خيار سوى الإلقاء به وهو على قيد الحياة مع بقية الجثث في القبر الجماعي. لا أحصي عدد القتلى، لكن العدد كبير. أخذوا الرجال على زمارين حيث مستوطنة زخرون يعقوب، فيما تم طرد النساء للقرية المجاورة الفريديس سيراً على الأقدام. في زخرون يعقوب لنا صداقات وعلاقات جيرة وتعاون تجاري. مختار زمارين اليهودي جاء مسرعاً للطنطورة، وطلب من الجنود الإسرائيليين وقف المذبحة عندما سمع بها. هكذا سمعت. بقينا ثلاث ليالي داخل دار في زمارين، وبسبب الزحمة كنا كعلبة السردين، ويلقون لنا الخبز والقليل من الجبن كالكلاب، وجعلونا نشرب من ذات الدلو المخصص للبول. من هناك نقلونا لمعتقل “أم خالد” وأجبرونا على العمل سخرة في النظافة داخل القاعدة العسكرية. بعد شهور نقلونا لمعتقل آخر قريب في قرية إجليل المهجّرة، وبقينا هناك حوالي عشرة شهور، وفيه وجدنا أكثر من ألف جندي مصري أسير. وهناك أيضاً عملنا في السخرة ونقل بعضنا لمعتقل عتليت، ومنهم فؤاد ومروان.

وكيف وصلت إلى سوريا ومنها إلى ألمانيا؟

في ربيع 1949 بدأوا بتسريح المعتقلين ومبادلتنا مع أسرى يهود في القدس، واحد يهودي بعشرة عرب. كان اليهود قد أعدوا لهم حافلات، أما نحن فألقوا بنا في الشطر الشرقي من القدس، ورمقنا ضابط أردني بنظرة احتقار، ولم نجد من يقدم مساعدة.

في القدس وجدت زوج عمتي، ففوجئ عندما شاهدني حيث فقدت نصف وزني. نقلني إلى نابلس حيث عمي المحامي. بعدها انتقلت إلى سوريا، والتحقت بعائلتي واستكملت التعلم الثانوي عام 1950، وشرعت في مزاولة التعليم في قرية سورية، ثم انتقلت للكويت، وعملت معلماً خمس سنوات، فأجرة المعلمين أضعاف رواتبهم في سوريا.

هناك، في الكويت رغبت بدراسة الطب، والتقيت شخصاً من النمسا، ونصحني بالتسجيل لجامعة فرانكفورت، وفعلاً قبلت، وانتقلت عام 1957 إلى ألمانيا، وتعلمت الألمانية خلال شهر واحد. أنهيت دراسة الطب عام 1963، وتخصّصت في علاج الأنف والأذن والحنجرة، وافتتحت عيادة خاصة عام 1971. تزوجت من سيدة ألمانية، وأنجبنا هلال، وهو طبيب، ورشا وهي مترجمة لخمس لغات (الإنكليزية، الطليانية، الإسبانية، الألمانية، والفرنسية).

في سوريا استقبلونا أحسن استقبال، ولذلك حاولت رد الجميل للشعب السوري فبعد هجرتهم إلى أوروبا لاجئين، عام 2011، عملت تطوعاً في تعليم العشرات اللغة الألمانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية