الطائفية وعبثية السباق في دائرتها المفرغة

حجم الخط
0

رغم تصاعد دعاوى الفرقة والتمزق، الا ان حكماء الآمة الساعين لوحدتها كثر. ولكن في عالم اصبح اكثر تفاعلا مع الاثارة وأقل انشدادا لصوت الحكمة والعقل، أصبحت الإثارة احد عناصر ‘النجاح’ لدى وسائل الاعلام. والاثارة، في المعيار الاعلامي، لا تتحقق عندما يدعو عالم مسلم لتوحيد الصفوف وينكر وجود اختلافات تستحق ان تكون سببا للفرقة، ولكنها تتحقق، وفق هذا المعيار، في أصوات مثيري الفتنة وفاتحي صفحات الاختلاف. وحتى في عالم السياسة لا يلتفت البشر لمن يدعو للسلام والوئام، ولكن من يقرع طبول الحرب يحظى بالاهتمام، وتجرى معه المقابلات. وقد يبدو احيانا ان غالبية الامة تبحث عن الاختلاف والافتراق والاحتراب، بسبب الترويج الاعلامي، خصوصا من قبل الابواق التي تخدم جهات سياسية بعينها. فمثلا تناقلت بعض وسائل الاعلام الاسبوع الماضي تصريحات على لسان محمد الظواهري، شقيق زعيم تنظيم ‘القاعدة’، أيمن الظواهري، وكان في كلامه جانبان، حظي احدهما باهتمام الاعلام المغرض، وتم التغاضي عن الآخر.
فقد عبر عن معارضته للرئيس المصري باعتباره ‘رئيسا مدنيا’ قائلا، انه يريد ‘رئيسا دينيا’ فتم الترويج لذلك كثيرا. اما الشق الآخر من تصريحه فقال فيه انه لا يتوقع ان تحدث حرب بين السنة والشيعة، بل قد تحدث بين المسلمين ومن يعتدي عليهم. فلم يحظ استبعاده تصاعد الخلاف المذهبي بالاهتمام، لان ذلك مغاير لما يريده الساعون لتمزيق صف الامة ووحدتها، ولكن اعتراضه على حكومة الرئيس مرسي تصدر التقرير الذي نشرته صحيفة ‘التايمز’ اللندنية يوم الخميس 25 نيسان/ابريل. هذا مثال واحد لاساليب ترويج الخلاف والتغاضي عما يحقق الوئام.
اما المثال الآخر لتكريس سياسات التفرقة فهو اضافة صفة ‘مسلم’ لمن يرتكب اعمالا ارهابية، وعدم اضافتها لغيره. فمثلا تجري هذه الايام محاكمة اربعة مواطنين من اصول باكستانية بتهمة التخطيط لاعمال ارهابية. وتغطى وقائع المحاكمة يوميا مع صورهم بلحاهم الطويلة مع نسبتهم للاسلام. فلا يقال انهم ‘بريطانيون يخططون لعمل ارهابي’ بل يقال ‘الارهابيون الاسلاميون’. ولكن لا ترى هذا الوصف يلحق بالعداء الصومالي الاصل، محمد فرح، بل استبدل اسمه الاول بالحرفين الاولين فاصبح يسمى في الاعلام البريطاني ‘مو فرح’ بدون الاشارة الى انه مسلم. انها الهندسة الاعلامية الموجهة لخدمة اغراض تتجاوز الحرية الصحافية او شرف المهنة، وتتصل بالعقل الباطني المختزن لدى الساعين لاثارة الفتن والترويج بابشع الوسائل ضد من يختلف معهم في الموقف او الرأي او السياسة. وثمة حقيقة اخرى تتمثل بوجود مدرستين متميزتين ضمن الدين المسيحي: الكاثوليكية والبروتستانتية. ويندر ان يصنف المواطنون بانتمائهم لاي من هاتين المدرستين او يروج الاختلاف بينهما، رغم مساحته الشاسعة، بالشكل الذي يؤدي الى التطاحن او الاحتراب الداخلي بين ابناء الدين الواحد.
هذه الحقائق تؤكد امورا عديدة تستحق الاهتمام، منها: اولا ان العرب والمسلمين امة واحدة تعايشت مع نفسها اربعة عشر قرنا بعلاقات بين مكوناتها تتراوح بين المد والجزر. وربما استغلت الاختلافات الفكرية او الفقهية لخدمة اهداف بعض الخلفاء او الملوك، ولكن علماء الدين من كافة المدارس الفقهية نأوا بانفسهم في اغلب الاحيان عن تحويل الاختلافات الاجتهادية الى قضايا خلافية تستدعي الشقاق والاحتراب. ولذلك بقيت علاقات المسلمين باغلبيتهم الساحقة متميزة بالتفاهم والتعايش السلمي والتعاون، خصوصا في حالة تعرض الامة للتحديات او التهديدات الخارجية. فوقف علماء العراق الشيعة ضد التدخل البريطاني بعدما سمي ‘الثورة العربية’ في الحجاز التي قادها الشريف حسين ضد الدولة العثمانية. انطلق اولئك العلماء في موقفهم دفاعا عن الدولة العثمانية، رغم ما ألم بها من امراض وانحرافات ادارية وسياسية، لانها كانت تمثل المسلمين. وكذلك الامر عندما غزا المغول البلاد الاسلامية، وقف علماء الامة ضد الغزو، وناشدوا الخليفة العباس في بغداد لاعداد الجيش لمواجهة الغزو، ولكنه رفض ذلك بدعوى عدم وجود اموال في الخزينة. وافتى علماء المسلمين جميعا بالتصدي للعدوان الاسرائيلي على مدى 65 عاما من الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين. علماء الدين المسلمون بكافة انتماءاتهم المذهبية ملتزمون بتحرير الاراضي المحتلة، في الوقت الذي يسعى فيه الحكام الساعون للفتنة بين المسلمين للتطبيع مع المحتلين واثارة الخلافات بين ابناء الامة. وفي الاسبوع الماضي اتخذ فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي موقفا كان موضع تقدير لدى الكثيرين برفض حضور جلسات ما يسمى ‘حوار الاديان’ احتجاجا على وجود اليهود، مشترطا تحرر فلسطين من الاحتلال الصهيوني للمشاركة في حوارات كهذه. هذا الموقف يعكس المواقف المشتركة لعلماء امة المسلمين في شرق الارض وغربها، على تعدد مدارسهم الفقهية.
ثانيا: ان تحويل التعدد الفقهي من مستوياته الفكرية والتعبدية الى صراع فئوي مذهبي عمل شيطاني له اهداف عديدة غير مقدسة، اهمها ثلاثة: افشال ثورات الربيع العربي التي هددت الانظمة الديكتاتورية في المنطقة، وسعت لتحديث النظام السياسي العربي بما يتناسب مع روح العصر وثقافته، تمرير مشاريع التطبيع مع الكيان الاسرائيلي باستغفال الامة واشغالها بصراعات داخلية، وتحويل الاختلافات في المناهج الفقهية الى صراعات بدون حدود، ولاهدار اموال الامة في صفقات سلاح عملاقة وبناء مشاريع نووية باموال النفط التي تضاعفت في الطفرة الاخيرة للاسعار التي بدأت قبل عشرة اعوام. فالاختلافات الفقهية ليس من القضايا التي يشعر بها عامة الناس لو تركوا وشأنهم، خصوصا مع وجود المشتركات التاريخية والاجتماعية بينهم.
ثالثا: ان مصدر الاثارات التي تؤدي الى التشطير والتشظي داخل امة العرب والمسلمين واضح ويكاد يكون معروفا للجميع. فالشطر الاكبر من مكونات هذه الامة لا يعيش ضمن المساحة النفطية التي يسعى زعماؤها لابعاد شبح التغيير عن اجوائهم، بل ان اغلب هذه الدول يعيش حالة من الانفتاح السياسي ومستويات من الحرية لا يعيشها المشرق العربي. وحتى الانظمة الملكية منها لا تمارس سياسة القبضة الحديدية على شعوبها، بل تتمع بقدر من المشاركة الشعبية في الحكم، وتسمح بمساحة واسعة من الحرية الاعلامية. كما ان المستويات الاقتصادية في بلدان المغرب العربي لا تسمح لحكامها بالاعتماد على الاجنبي لحماية امنها.
يضاف الى ذلك ان لدى شعوب الشمال الافريقي تاريخا مشتركا بين مكوناتها الاثنية والمذهبية. فقد عاشت تلك الشعوب في ظل الدولة الفاطمية والادريسية، بالاضافة للخلافة الاسلامية في الاندلس. تلك المنطقة أمدت الامة بفطاحل العلماء كالفيلسوف ابن رشد والرحالة ابن بطوطة، وفي الجغرافيا بالمقدسي والادريسي وعلماء آخرين في شتى انواع العلوم. لقد قدمت تلك الدول للامة سفرا عظيما في النضال ضد الاستعمار شارك فيه رجال عظماء، مثل عبد القادر الجزائري وعبد الحميد بن باديس وعمر المختار. كما انجبت مفكري النهضة الاسلامية الحديثة، مثل مالك بن نبي وغيره. انها دول عريقة لا يمكن ان تهبط مشاعر اهلها الى حالة الاحتراب الداخلي الدموي، ويعتبر اهلها من صانعي الحضارات، والمجاهدين ضد الاحتلال الاجنبي. لقد قاوم اولئك محاولات الهيمنة الثقافية الفرنسية واظهروا حصانة عميقة ضد التغريب، ويعرفون جيدا مخاطر الانتماء الفكري لحضارة اخرى تسعى لاقتلاع تراثهم الديني والثقافي. وثمة عامل آخر يمنع التطرف الفكري يتمثل بالتجربة المرة التي عاشتها الجزائر قبل عشرين عاما عندما الغى العسكر نتائج الانتخابات البرلمانية التي فازت فيها الجبهة الاسلامية للانقاذ، ونجم عن ذلك دخول القوى المتطرفة على الخط، فدخلت البلاد في حمامات من الدم حصدت ارواح اكثر من مئتي الف انسان.
رابعا: ان علماء الامة يتميزون عادة بالاستقلال فاذا استهوتهم بلاطات الحكام فقدوا استقلالهم وتحولوا الى ابواق للسلطان. انها ازمة جديدة قديمة تجد مصاديق لها في المشرق العربي بشكل خاص. وفي مؤتمر عقد هذا الاسبوع في بغداد حول التقريب والحوار، كان علماء الامة المخلصون من كافة المذاهب يتسابقون لطرح المبادرات الايجابية لاحتواء الازمة المختلقة التي حفرت بدماء ضحايا التفجيرات ذات الطابع المذهبي اخاديد من التخلف والدمار. وكان واضحا ان حرقة عميقة مختزنة في نفوس المخلصين من ابناء الامة الذين يرون اعداءها يستغلون ظروف الاحتراب الداخلي للامعان في بسط نفوذهم والتصدي لمسار التغيير واحتواء نتائج ثورات الشعوب التي غذتها دماء الشهداء. ان امة تثور ضد الظلم والاستبداد أكبر من ان تستدرج للمستنقعات التي لا تحوي سوى الوحل ولا تسمح لاحد بالحركة فيها. ان لقاءات العلماء في كل بلد او في مؤتمرات الوحدة والتقريب امر ضروري تقتضيه مصلحة الشعوب الباحثة عن الحرية والديمقراطية، والسائرة على طريق التخلص من الاستبداد والتبعية، والمصممة على تحرير اراضيها من الاحتلال. وقد يسعى البعض لاستغلال قضية فلسطين لتقديم الاموال لاهلها واحتضان اجتماعات التفاوض بشأنها، ولكن ارض المعراج تحتاج لوثبة امة صامدة متمردة على محاولات التشطير والاضعاف والاحتواء. واذا كانت قضية سياسية كسورية مثلا قد استغلت لتهميش الصراع مع اعداء الامة الحقيقيين، فمن الضروري الاعتراف بحق كل شعب عربي في تقرير مصيره واختيار النظام السياسي الذي يناسبه بعيدا عن الاملاءات والاستغلال البشع. وشعب فلسطين له قضيتان: اولها التحرر من الاحتلال الصهيوني، وثانيها السماح له باختيار النظام السياسي الذي يريده، وليس من حق احد ان يفرض عليه صيغا سياسية تؤدي الى ضياع الارض بذرائع واهية كالواقعية والعقلانية.
خامسا: بعد قيام ثورة ايران كانت الدعاية المضادة التي طرحت آنذاك مفادها ان ايران تسعى لتصدير الثورة، وشنت الحروب الاعلامية ضدها، واثير السلاح الطائفي لمنع ذلك وسيلة لمنع ذلك التصدير. كان الهدف منع وصول رياح التغيير للمنطقة، والابقاء على الوضع الراهن حفاظا على انظمة الحكم القديمة. وبعد هبوب رياح التغيير قبل عامين اصبح واضحا ان تلك الرياح عادت من جديد بشكل اكثر عصفا واقدر على اختراق الحدود نظرا لغياب الابعاد العرقية والمذهبية. فكان لا بد من حرف مسارها بكافة الوسائل المتاحة، مهما كانت دنيئة، ومن بين اسلحة التصدي التي مارستها قوى الثورة المضادة، الطائفية. ولكي يمكن اختراق المناعة الطبيعية لدى شعوب الامة ضد الاساليب التي استخدمت في السابق قبل ان ينكشف تضليلها وانحرافها، طرحت مقولة اخرى تحت عنوان ‘نشر التشيع’ او ‘تشييع المجتمعات السنية’، وهي مقولة لا يصدقها الواقع، ولا يستطيع مروجوها تقديم الادلة لاثباتها. فلم يتحول مجتمع سني الى شيعي. ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الالكترونية والفضائيات تهدمت الحواجز التقليدية بين الامم، ولم يعد الرقيب العربي قادرا على منع وصول الكلمة. فهذه الصحيفة ‘القدس العربي’ كانت محجوبة عن اغلب القراء العرب في السابق، ولكن ملف الرقيب اليوم يعجز عن حجب موقعها الالكتروني بشكل كامل. فقد اصبحت المعلومات متوفرة على شاشات الكومبيوتر بدون جهد، بل حتى الهاتف النقال تحول الى مصدر ثر للمعلومات، لا يستطيع احد حجبه بسهولة. وفي هذا المضمار بامكان الافراد تغيير قناعاتهم وانتماءاتهم السياسية والفكرية. وهذا من اسباب انتشار لهيب الثورة بشكل سريع في تونس ومصر وغيرهما، فقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورا اساسيا في ايصال المعلومة سريعا، فاستحال على انظمة الاستبداد احتواء الموقف. والامر نفسه ينطبق على المعلومات الدينية والمذهبية والفكرية والسياسية. فليس هناك من ينشر هذا المذهب او ذاك، بل اصبح الافراد اكثر تحررا من القيود التي كان الرقيب العربي يفرضها على شعبه. فهناك مسيحيون يعتنقون الاسلام، ومسلمون يغيرون دينهم، وشيعة يعتنقون المذهب السني وسنة يعتنقون التشيع. ان مقولة ‘نشر التشيع’ واحد من اسلحة الثورة المضادة الهادفة لوقف الحراك الثوري الهادف للتغيير بادخال الجماهير في حلقة مفرغة من الصراعات الوهمية. هذا الامر يستدعي وعيا حقيقيا من علماء الامة ومثقفيها لوقف تداعي مسار التغيير الديمقراطي في العالم العربي.
في خضم التصعيد المتواصل للمشروع الطائفي تقتضي مصلحة الامة ان تدرك انه مشروع لا ينحصر بالحدود المذهبية، بل يتصل كذلك بالاعراق والقوميات، ليكون اساسا لتفتيت البلدان العربية والاسلامية الكبرى وفق خطوط التمايز المذكورة.
ألا يكفي ما جرى في السودان لان يكون عبرة للجميع؟ وماذا عن الجزائر ومصر وسورية والعراق وايران وتركيا وباكستان؟ انها جميعا مهددة بالتقسيم ان سمح لثقافة التشطير والتناحر الداخلي والاحتراب المذهبي او الديني بالهيمنة على وعي الجيل الحاضر. لقد كانت ثورات هذا الجيل واعدة بتغيير ايجابي شامل، ولكن شاءت الاقدار ان تصادر تلك الثورات ويتم الالتفاف على مطالب الشعوب ليعود الوضع كما كان مع تغييرات سطحية غير ذات شأن. الوعي يبدأ بتصدي النخب المثقفة من علماء وكتاب ومناضلين، ليصل الى الشعوب التي كثيرا ما اثبتت انها اكثر وعيا من النخب. فما لم تستوعب النخب هذه الحقائق فلن يكون مصير الامة الا المزيد من التشرذم والتشطير والضعف، وفي ذلك خيانة لدماء شهداء ثورات الربيع العربي المختطفة.

‘ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية