تسمية الضاد الثانية أزعم أنّي ابتدعتها لأسمّي بها اللغة العربيّة بما هي لغة ثانية عند الناطقين بغيرها. لغة الضاد هي تسمية قديمة للعربيّة تمييزا لها بهذا الحرف، الذي لم نعد ننطقه كما كان ينطق، وهو اليوم موضوع خلاف نطقي بين كثير من العرب، فمنهم من ينطقه كالظاء، ومنهم من ينطقه كالدال المخفمة، ومنهم من ينطقه بضغط قويّ على اللسان، ومنهم من يجعل الضغط خفيفا.. المهمّ أنّه لا أحد اليوم ينطق الضاد مثلما نطقت قديما نطقا فيه جهد في تقطيع الصوت مختلف.
صحيح أنّ تضييعنا لذلك النطق أفقدنا اليوم التمييز بين الكلمات التي تُكتب بالضاد والتي تكتب بالظاء، فكثير من الناشئة لا يميّزون بين (ظنّ) بمعنى اعتقد، وهي فعل قلبي يتعدّى إلى مفعولين، و(ضنّ) في معنى بخل، وهو فعل لازم لا يتعدى الفعل فيه فاعله إلى مفعول.
لقد أفقدنا الفارق الصوتي التمييز الخطّي، وهذا أمر عاديّ اليوم، لا يراعيه معلّمو المدارس، ويغلظون القول للمتعلمين المبتدئين غير عابئين بحقيقة أنّ هناك أخطاء فيها عذر أكثر من أخطاء أخرى. إنّ فقدان الميزات النطقية للضاد يفسّر بعامل يسمّى في اللسانيّات الاقتصاد اللغويّ، أو بعبارة عامّة قانون المجهود النطقيّ الأدنى؛ ذلك أنّ الضاد كانت صوتا صعب النطق بالنسبة إلى الظاء أو الدال وغيرهما من الحروف المتقابلة تقابلا في نطاق ضيّق معها أو في نطاق واسع. وبما أنّ الناطقين يميلون إلى المجهود الأدنى فقد سعوا عبر سنوات طويلة من نطق هذا الحرف إلى التبسيط والتيسير. ونحن نرى اليوم كيف أنّ بعض الأصوات ذاهبة في المناطق الحضريّة إلى التسهيل والتخفيف والتنغيم المزيّن لها بما لم تتعوّد عليه اللهجات أو اللغة الفصحى عند النطق بها.
لقد مرّت العربية وهي تخرج من جزيرة العرب باتّجاه الشرق والغرب بأمم كثيرة، طُرُقها في تحقيق الأصوات مختلفة، ونحن يمكن أن نرى اليوم كيف أنّ العرب ينطقون الفصحى نطقا يختلف من جهة التنغيم وتقطيع الحروف اختلافا فيه تأثّر باللهجات العربيّة؛ فعلى سبيل المثال تنطق القاف اليوم همزة (ألم بدلا من قلم) في بعض اللهجات والثاء سينا (سورة بدلا من ثورة ) أو تاء (تامر بدلا من ثامر) في بعض اللهجات الأخرى. وبتنا نرى على صفحات التواصل الاجتماعي، التي لا رقيب عليها، كيف يكتب الناس الكلمات العربية كما ينطقونها في اللهجات؛ وفي ذلك تحريف ولبس قد يذهب بالفوارق الدلالية الأساسية. وقد يكون لذلك تأثير أكثر خطرا على مر الأيام قد يصعب تقويمه. بل إنّ التأثير اللهجي قد يتجاوز العربيّة إلى اللغات الأخرى. فنحن اليوم نسمع من يجد صعوبة في نطق حروف إنجليزية مثل (P) و(V) لأنّه لا وجود لهذين الحرفين في العربية ولا في لهجاتها. ويرى الدارسون في كثير من الأحيان كيف أنّ المدرّسين أنفسهم يمكن أن يجدوا عَنَتًا ومشقّة في نطق الصوتين أو في نطقهما نطقا تأويليا بالاعتماد على حرف معروف قريب منهما.
ما حدث للضاد على مرّ الأزمنة يشبه هذه التغييرات الصوتية. وهكذا فقدت الضاد ميزتها النطقية في هجرتها عبر المدن واللهجات واللغات حتى باتت ضائعة بين الظاء والدال مثلا.
إنّ الضاد التي ننطق بها اليوم هي إذن ضاد ثانية غير الضاد الأولى، التي تسمّت بها العربية صلفا وخيلاء وتعاليا على بقيّة اللغات، التي لا تكتسب هذا الإعجاز النطقي في أصواتها. لكنّ الضاد الثانية يمكن أن تكون تسمية للعربية لغير الناطقين بها، فالعربية لغة مطلوبة لدى من يتعلّمها من غير الناطقين بها. وهؤلاء إمّا أنّهم يطلبون العربيّة كي يتعلموها لأسباب مهنية تتعلق بالتجارة أو بالتعليم أو بالسياحة أو بغيرها من الأسباب التي تدعو الأجنبي إلى تعلّمها. هذا المتعلّم الذي تجتهد في جلبه المدارس والجامعات هو متعلّم لا يميز في أوّل اتصاله بالعربية بين الفصحى واللهجات، وهو بالتالي سيكون إزاء مستويين: مستوى تنجز فيه العربية في المؤسسات الإداريّة أو الإعلامية والصحافية، وهي العربية الفصحى؛ ومستوى ثان تنجز فيه العربية العاميّة يوميّا في الشارع وفي البيت، ومن الصعب ألاّ يتعلم طالب العربية الفصحى من غير الناطقين بها شيئا من اللهجات أثناء تعلمه إيّاها، وحين ينغمس هذا المتعلّم في المجتمع العربي، الذي يتعلم فيه العربية سينجز العربية بلكنة تلك اللهجة أو بلكنة تجمع بين لغته واللهجة المحلية، التي هو سامع لها أكثر من غيرها. ولذلك كان المستشرقون الذين يتقنون العربية ينطقونها بلكنة شرقيّة شاميّة أو مصريّة حسب المكان الذين هم منغمسون فيه ثقافيا.
إنّ العربية الفصحى متلبّسة بلهجاتها عند متعلّميها من اللغات الأخرى. وبناء على ذلك لابدّ من موقف مخالف للموقف الرسمي، الذي يدعو المتعلمين إلى إقصاء الاستعمال اللهجي في كلامهم. فهذا الموقف صفويّ وما يزال المعلّمون يتشبثون به عندما يعلمون الناشئة العربية، فهم يسلطون جام غضبهم على من يخلط كلامه العربي الفصيح بالكلام العامّي، ويعتبرون ذلك تفريطا في فصاحة لابدّ أن تكون في لسان متعلمي العربية. ومعلوم أنّ الصفويّة بهذا المفهوم موقف لا تقرّه اللسانيّات إذ لا تؤمن بوجود لسان أصفى من لسان، أو لسان أكثر فصاحة من لسان أو لهجة. إنّ هناك موقفا تعليميا مفيدا بالنسبة إلى من يعيش بين مجموعة لهجية معيّنة ويتعلّم بين أصحابها الفصحى فهو سيكون بين ضغطين لغويّين: ضغط اللغة وضغط اللهجة. ومن الممكن أن يستفيد المعلّم الذكيّ من هذا التقاطع بأن يجعل العامّية التي ينغمس بين أهلها لغة وسيطا بينها وبين العربية التي يتعلمها.
كثير من الكلمات الفصيحة يمكن أن يجدها المتعلم في اللهجات وأغلب الأصوات التي في الفصحى موجودة في العاميات، بدءا من الحروف الحلقية وصولا إلى الحروف الشفوية. ويمكن أن ينبّه المتعلّم أيضا إلى أنّ التركيب في الجمل العاميّة العربية خاضع في البنية التركيبية للتوزيع الإسناديّ، الذي رأسه فعل أو الذي رأسه اسم ففعل. لكنّ هناك إشكال آخر بالنسبة إلى متعلم العربية لغة ثانية تتمثل في لغته الأصلية إذ من الممكن أن يجد المتعلّم ضربا من العُسر في أداء أصوات ليست موجودة في لغته، ومن بينها صوتا الضاد والظاء وعندئذ سيسعى إلى التدريب كي يتأقلم أداؤه للأصوات الجديدة تأقلما ينسيه عادته اللغوية الأولى.
وضع العربية في العالم وضع مختلف فهناك من يرفض، لأسباب سياسيّة، أن تكون العربية لغة ثانية، وهناك من يرحّب بذلك ويدعمه. ففي كوريا الجنوبية على سبيل المثال يُتعامل مع العربية على أنّها لغة ثانية وهي موضوع اختبار في كثير من اختبارات التوظيف المهني. ومنهم من يحاول النطق بالعربية نطقا يستملح فيه اللحن لأنّه لا يمثل بالنسبة إلى المستمع شيئا يذكر أمام سماعه العربية الشعرية تتلى على لسان أجنبيّ. يقلّ شأن الخطأ مع الأجانب الذين ينطقون العربية بشيء من العسر أو التحريف أو بإيقاع مختلف عن الإيقاع الذي ننطق به لغتنا.
بعض الدارسين الكوريّين يقولون إنّهم أقبلوا على دراسة العربية لأّنهم أعجبوا بلحنها عندما تؤدّى. يقول الأجانب لنا أشياء عن لغتنا لا نشعر بها نحن الأصليين حين نتكلم الفصحى: هم يقولون لنا حقيقة مهمّة إن خلف كلّ نطق للغة نغميّة معيّنة وموسيقى خاصّة تميّزها: نعم للعربية نغميّتها التي لا نلاحظها نحن من تعلمها وبات ينطقها لعقود، يلاحظها الأجنبي مثل الكوريّ الجنوبي. عبارة كهذه وهي تعلمنا بأنّ خلف اللغة يكمن لحن تذكّرنا بمن ادّعى أنّ البشر كانوا يغنون في أوّل أطوار تكلمهم: اللغة موسيقى خفية، والموسيقى لغة خفية أيضا، ولا يمكن أن ننتقل بين الموسيقى والكلام وكأننا نعبر بين عالمين مختلفين.
أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية