الصيام عن الإدراك

نحن نعتقد أنّ الصيام يعالج عقديّا في الأديان التي تقرّ الصوم، بالتحكم في تقييد ما كان مباحا منها في الأيّام العاديّة وهذا التقييد يجري عبر منع بعض الحواسّ الناقلة للشهوة من ممارسة نشاطها العادي، فالامتناع عن الطعام أو الشراب أو الملذات المباحة في الإفطار، يوازيه منع للانجرار وراء الحواس المدركة والمشبعة لنهمها. لكنّنا نعتقد أنّ تقوية اللواقط الحسّية أثناء الصوم، أمر ثابت لدى من يشعر بأنّ الصيام يحرمه نشاطه الحسّي المألوف. وما يعنينا ههنا هو الحديث عن علاقة الصوم بالإدراك أي بعبارة مبسطة هل أنّ للصوم تأثيرا على معالجة الذهن للحسّ وللعاطفة؟
حين يقرأ الصائم «سورة الواقعة» بين الآيات (17- 50) في رمضان قراءة فيها تمعّن في المعاني وليست قراءة حفظ وترتيل وتدريب على عدم نسيان النصّ المقدّس، هل من الممكن أن يقرأها بالإدراك نفسه الذي يكون عنده في أيّام الإفطار؟ في هذا المقطع يصف الله جلّ وعلا في كتابه الجليل مشهدا مطوّلا من الجنان حيث يَطوف على أصحاب النعيم ولدان مخلّدون بأكواب من شراب الآجلة حيث لا فناء، فيشرب الفائزون بالخلد شرابا لا يفقدهم ما يفقدونه به في العاجلة، إذ لا تصدّع رؤوسهم ولا تنزف عقولهم فالشراب لا يفقد متعة التعقّل والتبصّر مثلما يمكن أن يحدث في الآجلة.
وتعرض على المخلّدين ألوان من الفاكهة وبين أياديهم لحم الطير صنوفا والحور العين يزينّ المشهد كأنّهن اللؤلؤ المكنون، ولا يسمع المخلّدون وهم مجتمعون لا لغوا ولا حديثا مثقلا خارجا عن المألوف مزعجا، وهكذا يستمر بك الوصف في هذه الآيات ما يجعلك تتفاعل وأنت في عزّ الصوم مع النصّ تفاعلا نفترض أنّه مختلف عن التفاعل معه والبطن مشبعة والحسّ مستطرب. ما من شكّ في أنّ الحرمان يذكي نار الشوق أثناء القراءة، وهذا ليس غريبا بالنسبة إلى اختلاف التلقّي باختلاف مقاماته ووضعيّاته ومن يتلقاه ومتى يتلقاه. وأنت تقرأ أو تشاهد ما تقرأ في هذه الآيات تستجمع الحواس وتنخرط في المشهد بالسماع والرؤية والشم والذوق والشعور، لكي تتعامل بها مع المعلومات الواردة فيه. وأنت تقرأ تحصل على معلومات ممّا تقرأ وتتمثّل الأوضاع ما قدرت قدرتك المُخيّلة على تمثّله وتصويره؛ ويمكن أن تنخرط فيها وتصبح جزءا من المشهد متفاعلا معها. أنت لا تحصل على المعلومات من خارجك، بل تحصل عليها من داخل النص وعبر التمثلات الذهنية للمشاهد التي تعرض عليك في النصّ.

ماذا لو كان الصائم، وهو يقرأ هذه الآيات المتعلقة بالجنة، يشتهي أن يشرب ماء زلالا حلالا من هذه الأباريق، فيذهب عطشه الذي يكاد يذهب صبره، وماذا لو كان يشتهي أكل لحم الطير مع الآكلين، وماذا لو تعلقت همّته وهو بالحور العين وهشت لهنّ نفسه بعد يوم من التعب والصوم المضني؟ في هذه الحالة يكون القارئ قد أدمج حواسّه في ما أدركه، وما أرته إياه القراءة عبر التمثيلات الذهنية. في هذه الحالة لن يرى القارئ بشكل محايد ولا أقرأ بشكل محايد، فعطشه هو الذي أثر في تمثلاته وكذلك جوعه وبات في شوق إلى هذا النعيم وما شابهه. ما يحدث للحواسّ المتعطشة لكي تعمل وتشبع عند تلقّي ما يقرأ، وعند إدراك الموجودات بالقراءة، أو بغيرها من الحواسّ في حالة الصيام، أمر متعدّد الوضعيّات فهذا ما ما يحدث عندما تكون في المطبخ، أو في الزقاق وتشمّ رائحة أكل تطرب لها الحواسّ، هذه الرائحة التي كنت تمرّ عليها قبل ذلك مرور الكرام وقد لا تشعر بقوّتها ومفعولها في نفسك بات لها التأثير الكبير وأنت صائم. إنّ الذهن لا يكتفي فقط بممارسة تفكيك شيفرة ما تلقفه عبر الأنف، بل إنّه فضلا عن ذلك صنع لديك شعورا بالشوق إلى أن ما شممته لم يكن موجودا في حالة الإفطار: حين كانت غريزتك الجائعة مشبعة.
هناك شيء يحدث في تقوية عاطفتنا تجاه الأشياء التي ندركها، وقد يكون الحرمان منها أو افتقادها أو الشوق إليها عنصرا من عناصر تلك التذكية. في أيّام الإفطار يحدث ضرب من الإشباع الإرادي، الذي يجعل علاقتنا بالطعام وبالشراب في حالة من الحضور الباهت، بما أنّه ممارسة ممكنة؛ ولكن في أيّام الصيام يحدث ضرب من الحرمان الإرادي، الذي يجعل علاقتنا بالطعام والشراب في حالة من الحضور الصارخ الذي يقوى كلما زادت حاجتنا إليهما بتقدّم النهار أو بتقوية العاطفة المبذولة نحوهما والشوق إلى التشبع منهما.
وبالرجوع إلى الآيات أعلاه في «سورة الواقعة» فإنّ هناك شيئا إزاءها مهمّاً هو اتخاذ القرار: أنقبل على مشاهدها أم تقرأ الآيات للقراءة المقدّسة للنصّ. هناك في رأينا قراءتان مختلفتان من جهة التلقّي، واحدة تُعمل الحواسّ في ما تقرأ وتشتهي أن تشبع نهمها، مثلما يشبع أهل الجنان نهمهم إلى الملذات بعد حرمان منه في الدنيا، وأخرى تتنكر للحواسّ وتعالج المقاطع بمراقبة ذاتية، فلا تقبل على مشهدية النصّ وتفاصيله ولا تنظر إلى إشباعات الرغائب فيه، بل إنّها تقبل عليه باعتباره نصّا مقدّسا وكلاما من كلام الله المفارق الذي لا مثيل له. طبعا نحن هنا نتحدّث عن قراءة متمعّنة في النصّ، ولا نتحدّث عن قراءة له لا تتفاعل حسّيا أو عاطفيا مع معانيه.

إذا كانت مهمتنا ونحن نقرأ أن نشبع حرمانا فينا، فقد ننتبه في النصّ إلى تفاصيل الكؤوس وما حوته من شراب، وإلى صفات الجواري والظلال والغلال، وكل شيء يشبع ذلك الحرمان، وهذا الحرمان نفسه هو الذي كان وراء إشباع اللغة وهي تشرح النص القرآني، وتضيف إليه تفاصيل ليست فيه كأن تصف الجواري وجمالهن والغلمان وبهاءهم والغلال وندرتها فكل شيء يوصف بـ»ما لا عين رأت ولا أذن سمعت» وكلما زدنا تفصيلا في الوصف زدنا إشباعا لحرماننا.
لكن إذا كانت مهمّتنا ونحن نقرأ المقطع السابق أن نوقف شهوتنا المكبوتة لا بإشباع منتظر من الجنة، بل بالنظر إلى ما وراء تلك الشهوة من عظمة من خلقها ومن أطفأها من ابتدعها ومن أحسن تهذيبها، فيجب علينا عندئذ ألا نرى لون عيون الحور ولا فخامة الكؤوس ولا بذخ المفروشات ولا غرابة الغلال، علينا أن نرى أشياء أخرى من بينها أن نتعلم كيف نتجاهل ما يقبل عليه الناس، وأن نتعلم ونحن في الجنة الموعودة أن لا نرى الجواري ولا نقبل على الشراب ولا الراحة الكبرى، بل أن نفكّر أنّ خلف ذلك كلّه شيئا اسمه فلسفة المكافأة، وأن نتساءل هل إنّ المكافأة تكون من جنس الحرمان؟
إننا نقول من خلال الكلام السابق إنّ الشعور بالجوع في رمضان والتفكير في ما يطفئ العطش والشوق إلى عناصره ليس إلاّ طريقة من طرق إدراك الحلّ فيه صوم عن الإدراك المفارق: ألاّ تفكّر كالناس في ما يحتاجه عامة الناس؛ بل عليك أن ترى طريقة أخرى من طرق إدراك الحلّ يكون فيه إضاءة للإدراك وسير به إلى مجاهل أخرى لا يسير فيها العامّة. في هذا الطريق سار أصحاب التجارب من كبار الروحانيّين، ومن كبار المفكّرين، الفريق الأوّل نظر إلى ما يجيع بديلا لما يشبع، والفريق الثاني نظر إلى ما يعمق الفكر ويجرّده من الحسّ المشترك ويرقى به إلى الفكر المفارق بواسطة التأمّل. إنّ إدراك الأشياء يكون دائما بالتركيز على ما تميل إليه النفس ميلا نفعيّا، ولكنّ الحالات النادرة التي يكون فيها الإدراك بالتركيز على ما تميل إليه النفس تعفّفا وتعمّقا وتفلسفا، هو ما نحتاج إليه في حياتنا عند تجربة كتجربة الصوم، وعند القراءة كقراءة القرآن وعند الحلم كالحلم بالجنة. نحن إذن لا نصوم عن الإدراك، بل نفطر وبنا نَهم في أن نقع صرعى على الموائد ذات المغريات الكبيرة.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسيّة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية