الصيادون يبحثون عن الفتات في بحر غزة وسط الدماء للتغلب على الجوع والفقر

أشرف الهور
حجم الخط
0

غزة- “القدس العربي”:

لم تمنع هجمات جيش الاحتلال بعض صيادي قطاع غزة، من النزول خلسة للبحر، بحثا عن رزق أطفالهم وعوائلهم، في ظل تفشي البطالة والفقر بمستويات عالية جدا؛ بسبب الحرب المدمرة رغم أن ذلك يكلفهم حياتهم في بعض الأحيان.

عمل وسط حقل ألغام

بعد أشهر من الركود، اهترأت فيه ما تبقى من مراكب صيد لم تدمر خلال هجمات جيش الاحتلال، وصدأت بعض معدات الصيد، ومُزقت الشباك، وتيبست أذرع الصيادين بسبب التوقف الإجباري عن العمل، يضطر الصيادون في هذا الوقت إلى النزول للعمل بحثا عن صيد قليل يوفر لأسرهم قوتها اليومي، بعد أن ضاقت بهم الأحوال جراء الأزمة الاقتصادية التي خلقتها الحرب.

ويضطر الصيادون إلى خوض عباب البحر باستخدام المراكب الصغيرة، إما تلك التي تعمل بمولد واحد، أو تلك التي تعمل بالمجداف، كون عملهم يقتصر على الصيد على بعد أمتار معدودة من الشاطئ، خشية من التوغل أكثر في عرض البحر، باعتبار أن العمل قرب الشاطئ يمكنهم من المغادرة بسرعة، في حال الملاحقة الإسرائيلية.

وبعد أن كانت تلك المراكب لا تُرى بالعين بعد إبحارها للعمل في الفترة ما قبل الحرب، لوصولها إلى مسافة تقدر بـ15 ميلا بحريا، في رحلات يعود خلالها الصيادون بصيد وفير، باتت في هذه الأوقات تُرى خلال رحلات العمل القصيرة، ويمكن أيضا معرفة عدد ركابها وأسمائهم من جيران البحر، لقربها الشديد من الشاطئ.

غير أن الصيد في المساحة القريبة، لم يحمِ الصيادين من الهجمات الإسرائيلية التي أوقعت في صفوفهم شهداء ومصابين، كان آخرهم نهاية الأسبوع الماضي، حين استشهد صياد وأصيب آخر في استهداف مركبهم قبالة سواحل مدينة رفح. لكنّ تلك الهجمات الدامية، لم تمنع الصيادين من الاستمرار في المخاطرة، بحثا عن قوت أسرهم وأطفالهم، الذين اكتووا بنيران الحرب والفقر كغيرهم من سكان غزة.

ويقول أبو ماهر، وهو رجل في منتصف العقد الرابع، ويقطن مدينة دير البلح وسط القطاع، ويملك مركبا صغيرا هو وأحد أشقائه، إنهم اضطروا للعمل من جديد رغم المخاطر الكبيرة التي قد تكلفهم حياتهم.

ويشير هذا الرجل خلال حديثه لـ”القدس العربي”، إلى أنه عمل طوال الفترة الماضية في كثير من المهن لتوفير قوت أسرته كبيرة العدد، غير أن عمله لم يكن يوفر أدنى مستلزمات الحياة، حيث عمل في بيع الخبز ومرة أخرى باع فيها معلبات على بسطة وسط السوق، علاوة عن أعمال أخرى شاقة، وأضاف: “الأعمال الي فاتت (الماضية)، ما كنت بعرف فيها كويس، ما إلي إلا مهنة الصيد”.

لقمة العيش مغمسة بالدماء

هذا الرجل يقول إنه يعمل في الصيد منذ أن كان طفلا لا يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، ويوضح أنه يفهم لغة البحر جيدا كباقي الصيادين، ويفهم متى يمكن العمل شتاء ومتى لا يجوز، ومواسم الصيد وأماكن تجمع السمك، غير أنه يضطر حاليا للعمل بطرقة بدائية تقوم على إحاطة رقعة من البحر بالشباك، ومن ثم جرها إلى الشاطئ، تحمل معها ما توفر من أسماك. ويقول أبو ماهر إنهم في كثير من المرات يجمعون الشباك دون أن يكون بها سمكة واحدة، بعد أن يكلفهم ذلك جهدا بدنيا، وخوفا من هجمات للبحرية الإسرائيلية قد تكلفهم حياتهم.

وليس بعيدا عن ذلك المكان، كان صيادون آخرون يتجمعون حول مركب صغير ويعرف باسم “الحسكة”، كان بعضهم يضع عليه الشباك، وآخرون شرعوا بدفعه إلى البحر، قبل أن يقفز على ظهره اثنان منهم، توجها به غربا لمسافة تقل عن 300 متر، وهناك قاموا بإلقاء الشباك، ومن ثم جمعوها يدويا، وعادوا بها إلى الشاطئ.

وبعد مد الشباك على رمال البحر، وتنظيفها من بعض العوالق، تمكن الصيادون من جمع بعض الأسماك من أنواع مختلفة.

ويقول إبراهيم عابد، إنهم يضطرون يوميا لتكرار هذه العملية مرات عدة، على أمل الحصول على صيد وفير، ويشير إلى أن هذه المهمة يشترك فيها ستة صيادين، كل واحد منهم يعيل أسرة، ويقسم عليهم ثمن السمك بعد بيعه.

هذا الرجل قال لـ”القدس العربي”، إنه في كثير من الأيام، لا يكفي ما يتم صيده ثمن وقود المركب، لكنه وغيره من الصيادين مضطرون لذلك، فلا خيارات بديلة لديهم لكسب لقمة العيش، حتى لو كلفهم ذلك حياتهم.

وتحدثت “القدس العربي” مع الصياد إبراهيم، عن المخاوف والهجمات المتكررة لجيش الاحتلال، فأشار إلى أن ذلك أجبرهم على توزيع العمل، بحيث لا يكون على متن المركب الصغير خلال رحلة الإبحار سوى اثنان منهم “حتى لا يموتوا كلهم في ضربة واحدة” كما قال.

وقد تحدث عن معايشته أهوالا في غاية الخطورة، فأشار إلى أنه نجا من عمليات إطلاق نار متكررة للبحرية الإسرائيلية، حيث كان يتفاجأ بإطلاق النار من الرشاشات الثقيلة على مركبه.

ويوضح إبراهيم أن هذه الهجمات عادة ما تكون مفاجئة، حيث لا ترى زوارق الاحتلال الحربية بالعين قبل بدء الهجوم، ويجبرهم ذلك على العودة مسرعين إلى الشاطئ، وترك المراكب والاحتماء في مناطق بعيدة.

وليس بعيدا عن هذا المشهد، يقول الصياد محمد هولي، إنه نجا بأعجوبة من الموت مرات عدة، حين استهدفت البحرية الإسرائيلية مركبه ومراكب أخرى بقذائف صاروخية. ويقول إنه يعلم أنه يهرب من الموت والقصف إلى مصير مجهول آخر. وهذا الشاب كان يشير إلى ما يعيشه وأسرته من خوف من الموت في أي لحظة جراء القصف والهجمات الإسرائيلية المتتالية على قطاع غزة، ويقدم يوميا إلى البحر رغم المخاطر، على أمل العودة بالمال لأسرته.

الصيد بالوسائل البدائية

كغيره، يعمل الصياد محمد مستخدما وسائل صيد بدائية، ويعتمد على يديه في جر الشباك، بعد أن كان الصيادون يعتمدون على آلة سحب تكون معلقة في نهاية المركب الكبير “اللنش”، وهي مراكب كانت تبحر على بعد عدة أميال من الشاطئ. وكانت في مواسم الصيد تعود بكميات كبيرة من الأسماك.

ويقول إن ما يوفره من مال في أفضل أيام الصيد لا يتجاوز بعد تعبه مبلغ 80 شيكلا (نحو 20 دولارا)، لكنه يقول إنه في معظم الأيام لا يجبي نصف هذا المبلغ، لكنه مجبر على هذا العمل.

هذا وتحدث الشاب محمد عن مأساة أخرى لزملائه، تمثلت في تدمير مراكبهم ما جعل أوضاعهم الاقتصادية أكثر سوءا من غيرهم.

وفي بداية الحرب على قطاع غزة، عمدت قوات الاحتلال إلى تدمير مرفأ الصيادين غربي مدينة غزة. كما بشكل ممنهج، الكثير من مراكب الصيد خلال وجودها على شواطئ قطاع غزة، وحولتها إلى أكوام من الركام والرماد.

من بين هؤلاء الصيادين كان أحمد مقداد، الذي كانت عائلته تملك مركبا للصيد، وقد وصلت إليهم معلومات أن المركب دُمر خلال الهجوم الإسرائيلي على مرفأ غزة.

وقد نزحت عائلة مقداد إلى وسط القطاع بناء على تحذيرات جيش الاحتلال لسكان مدينة غزة والشمال في بدابة الحرب، حيث كانت تقطن مخيم الشاطئ.

وبشكل شبه يومي، يجلس هذا الصياد على مقربة من الصيادين يراقب عملهم. وفي الوقت الذي كان فيه صيادون يدفعون مركبهم الصغير (المجداف) إلى مياه البحر لإنزال شباكهم، كان هذا الرجل يضطجع على جانبه ويسند رأسه بذراعه، وقال بحسرة: “نفسي أرجع للبحر”. ويقول محمد لـ”القدس العربي”، إنه في كثير من الأوقات يترك مكانه، ويذهب لمساعدة الصيادين في جر الشباك، حبا بهذا العمل.

ولم يعد يعمل هذا الصياد ولا أفراد أسرته في البحر بسبب ظروف الحرب، ويأمل أن يجد عملا في هذه المهنة قريبا، حتى لو بأجرة، بعد أن كانت أسرته تملك قاربا كبيرا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية