الصحراء مصدر إلهام: الرواية الموريتانية وسرديّات الانتقال الشاقّ

ارتبطت موريتانيا، أو شنقيط قديماً، في المخيال الشعبي والثقافي العام بـ»بلد المليون شاعر». وعلاوة على مفارقة التسمية التي أطلقتها، في مرحلةٍ ما، الصحافة المشرقيّة مجلة «العربي» تحديداً منذ أواخر الستينيّات من القرن الماضي، حتى أمست حجاباً، إلا أنّ هذه الجزيرة الرملية النائية المترامية الأطراف تعكس جوانب مهمة ورمزية من حياة الصحراء في غرب افريقيا وتمثُّلاتها، مثلما كان يحدث في مجالس السمر، حيث الشعر الحساني والأزجال الشعبية والحكايات التي تُروى على كل كثيب أبيض، وفي مضارب الخيام، وعلى ظهور الجمال، أو في بطاح واحات النخيل ومعاطن الآبار، كما في مشاهد التفاخر بين العشائر، إلخ. وما زال منهاجها التعليمي يرغم الطلاب على حفظ عشرات الدواوين التي تعود للتراث الشعري القديم، وهو ما يجعل من موريتانيا في طليعة المدرسة التي تُخرّج شعراء العمود الذين يكتبون شعراً فصيحاً جزلاً لا يخلو من جهارة خطابية، وفي المقابل بقوا بعيدين عن الإسهام في بلورة القصيدة العربية الحديثة؛ فقد عاشوا في شبه قطيعة مع ما كان يجري من تحولات حاسمة في جسد هذه القصيدة وفكرها وأخيلتها، ليس في المركز وحسب، بل في الأطراف من دول المغرب الكبير.

فضاء في قلب التحولات

يبرز اليوم جيلٌ جديدٌ من الكُتّاب لم يأنسوا بهيمنة الشعر وتحكُّمه في الوجدان الموريتاني واستيهاماته وانفعالاته في الكتابة والحياة، فانحازوا إلى تجريب أشكالٍ تعبيريّة جديدة، قادرة على استيعاب اللحظة المعاصرة التي يمرّون بها، والإصغاء إلى أحداثها وتقلباتها، وكشف تبدّلات الفضاء الصحراوي بغير قليل من الجهد الفنّي، مستثمرين ما يتيحه لهم هذا الفضاء من سرديّات خاصة، يصل تأثيرها إلى منطق الحكاية وإيقاع السرد ورؤية العالم والشيفرات الميثولوجية والجمالية. فإلى جانب القصة القصيرة والمسرح والرسم والفن التشكيلي، يشهد الأدب الموريتاني المعاصر صعود فنّ الرواية، الذي أخذت تخترقه حساسيّاتٌ تعبيريّةٌ نابعة من المحيط البيئي والميثولوجي والسوسيوثقافي، تمسُّ في الصميم مُتخيّل السرد وأبنيته النصية والرمزية. ولهذا، تستمدّ معظم سرود موريتانيا مصدر إلهامها من فضاء الصحراء الموريتانية العريضة في شظفها وخشونة عيشها (الوديان، القفار، الرمال، الجبال، مضارب الأحياء البدوية، القوافل) ومن حياة الريف في تقاليدها وأدوات زينتها ومائدتها وفنونها وحياتها اليومية، وأشكال الصراع القبلي التي تشهدها، ولاسيما بعد الفترة الاستعمارية والانفتاح على بنى التمدن، وهوية الفرد داخل المجتمع، الذي تسعى تقاليده البالية لإخضاعه وسحقه، وعلاقته بالآخر (الغرب) عدا قصص الاسترقاق والتهميش والصراع مع قوى الطبيعة من أجل البقاء؛ كما نجد ذلك في روايات مثل: «القبر المجهول» لأحمد بن عبد القادر، و»دروب عبد البركة» و»أشياء من عالم قديم» لمحمد بن محمد سالم، و»أحمد الوادي» للشيخ ماء العينين بن شبيه، و»وادي النعام» لمحمذن بابا ولد أشفغ، و»وادي الحطب» للشيخ أحمد البان، و»هجرة الظلال» لمحمدو ولد أحظانا، و»كتاب الردّة» لمحمد عبد اللطيف، وغيرها من الروايات التي تتأرجح بين كتابة التاريخ، ورصد الأحداث الواقعية التي تستمدّها مادّتها الحكائية من حركة المجتمع وتدافع طبقاته الناشئة، أو تخييل هذه الأحداث ضمن ما تتيحه المدوّنة المحلية من روافد دينية وغيبية وعجائبية، ورموز ميثولوجية وميتافيزيقية، والتصالح مع الذاكرة والبحث عن الذات والهوية داخل نسيج متعدد الأعراق، بل التنبؤ بحوادث فوق واقعية لتجاوز ما هو سائد وغارق في التناقضات من خلال الاتكاء على الحلم والخيال العلمي. وكان لكلّ هذا النسيج المتنوع من السرديّات أثره العميق على بنيات الخطاب الروائي ومعماره الفني تسريداً ولغة وتصويراً وتمثلات ما يجعل من روائيّي موريتانيا يحوزون مكانتهم المعتبرة داخل المشهد الروائي العربي المعاصر، والمغاربي أساساً، ويجترحون أساليب ونقلات كتابية خاصة تتفرّد بها متونهم السردية عن غيرها.

سردية الفنتازيا

يقدم لنا موسى ولد أبنو سرديّةً شديدة التميّز في علاقتها بفضاء الصحراء، بحيث تكشف لنا عن قدرة المعالجة الروائية لهذا الفضاء من خلال الارتفاع بعالمه الواسع والغريب إلى أفق إنساني ووجودي وفلسفي يصيغ مفرداته وموادّه النوعية بقدر ما يجري عليها تحويلاً جذريّاً بوسائط الحلم والفنتازيا والتخييل والمفارقات الزمنية، أو ضمن ألاعيب السرد وحيله الفنية. فالصحراء داخل هذه السردية تتجاوز دلالتها المكانية لترتبط، تخييليّاً، بمجموعة من الدلالات الرمزية والميثولوجية التي تسم وقائع الرواية بأبعاد جديدة وغرائبيّة داخل حركة الحدث الروائي، مثلما تكشف عن ارتهان الإنسان لاشتراطات مكانه بما يمليه عليه من بنية مفاهيمية وتقاليد اجتماعية قارّة، إلا أن ذلك لا يقعد به عن مقاومة ما حوله والسعي للتغيير على الصعيد الشخصي، ومن ثمّ المساهمة في الحراك الاجتماعي الذي يبدو بطيئاً في الظاهر. ولهذا، لا يكون التخييل في بعديه التاريخي والأسطوري، من دور حيوي في توجيه الفضاء السردي نحو الفعل الحي، وهذا ما نعدّه أدخل في القيم السردية للأدب الجديد، إلا بمدى تأثيره في رؤية الروائي وخطابه الذي يرتبط بتغيير الواقع المعيش، وفي أن يجعل من ذوات شخصياته وتشابك مصائرها جزءاً من حركة هذا التغيير المنشود والشاقّ.
ترسم روايته الأولى «مدينة الرياح» مثل هذا الوعي، وهي تغطس مفرداتها في عالم الصحراء وما فيه من رهبة ولعنة وقمع وتوق إلى الخلاص. فمن جهة، تطرح الرواية نرجسيّة المثقف العربي المغترب، الذي ينشد الحرية في حضن الآخر متناسياً مأساة وطنه، وهو يجاهر بأسئلته القلقة والحائرة حول الهوية والقومية، حد التعبير عن رغبة الذات في قتل الأب والتحرر باللغة عن طريق الهذيان والاستيهامات التي تفجّرها. وقد عمد الروائي إلى فانتازيا تعبيريّة حين أشبع سرده بتناصّات وأنسجة لغوية من المأثور الشعبي والثقافة الشفهية، والمظاهر الإثنية والأنثروبولوجية، لصالح مواجهة هذه المدونة وما يعتريها من جملة المتناقضات نقديّاً، ولتصوير مشكلات الهوية المُغيَّبة تحت وطأة الآخر الغربي الغازي القاهر والمستبد، بحثاً عن بصيص أمل يأتي من هذه «الأرض اللعينة».
في «الحب المستحيل» يعود إلى خيار الفنتازيا مرة أخرى، من خلال قصة حب آدم ومانيكي، تجري أحداثها في المستقبل، كذريعة فنية للاحتجاج على الإسراف في تطبيق النظريات العلمية، والفصل بين العلم والأخلاق، وتحويل الإنسان إلى حيوان «منوي» يجري استنساخه كيفما اتفق، وهدم الأسس الطبيعية لعلاقات الجنسين من تكاثر وتكافل، مع ما يمكن أن يترتب عليها من عواقب وخيمة على النوع البشري ومستقبله على كوكب الأرض. فالرواية تعتمد على فكرة جورج أورويل في روايته المذهلة «1984» حيث يمنع الحب بين الجنسين وتفرض عقوبات صارمة وبشعة لكل من يرفض الانصياع لأوامر السلطات العليا؛ وبالتالي تشخص الخطيئة الآدميَّة في ظل تنامي التقني على حساب الإنساني. ورغم أنها تندرج ضمن الخيال العلمي الذي يُبنى من خلال مدونة التراث الشفاهي والعالم، إلا أنّها تقترب في بنيتها القصصية من الرواية البوليسية، وتعطي أهميتها للتفاصيل التي تبحث أشكال القمع والظلم والخضوع، التي يعيشها الإنسان في زمن أعمى وغير رحيم. ومن جهة أخرى، تستعيد قصة آدم وحواء وتؤولها في حبكة جديدة تحمل على فعل الإصغاء والتدبر بدل الاستخفاف بالعقل الإنساني.

خيال من أجل المستقبل

من المستقبل إلى الماضي السحيق، تعود بنا روايته «حجُّ الفجار» إلى عصر الجاهلية، وتقع أحداثها خلال موسم الحج في السنة الثالثة والخمسين التي أعقبت عام الفيل، بموازاة مع انعقاد سوق عكاظ الشهير، وتتناول حياة عرب الجاهلية ومعتقداتهم وطقوس عيشهم، مع ما يكتنفها من طقوس وشعائر وثنية نزل فيها الإسلام (طواف العراة، استقسام بالأزلام وهدي للأوثان ضرب القداح واستخدام الرقى والتمائم، ومجالس الشراب واللهو) وتتعاورها شخصيات يكون لتمثّلاتها المفارقة والعنيفة والمقبوحة – سيميولوجيّاً- شكل أليغوريا لتجسيم الغرائبي والوحشي وتمثيل الهوية المبحوث عنها (شخصيات مرجعية، شعراء، خطباء وكهنة، سحرة، صعاليك، متوسمون للثأر، عبيد، سدنة أصنام، جن وشياطين، إبليس). فالروائي يجد مادّة متاحة وغنية تقوم عليها سردية الفنتازيا لتشخيص التاريخ الاجتماعي والأنثروبولوجي لمجتمع بدائيٍّ قبليٍّ كان يتحرك ببطء من الوثنية إلى التوحيد، ليس من أجل نقده وحسب، بل إعادة إحيائه وترهينه والاعتبار به في الحياة المعاصرة. مثلما يجد، بموازاة مع موضوعها وقصد الإيهام بواقعيّة أحداثها، لغة تستوحي خطابها وتمثيلاتها السردية من المأثور اللغوي والسردي العربي، بكل ما يحفل به معجمه من مفردات الغربي والوحشي وغير المأنوس به والمهمل اللغة، بل تتناصّ مع أخبار وآثار شعرية وسردية تراثية قديمة (أيام العرب، أشعار الجاهليين، القصص القرآني، السير الإسلامية، المقامات، أسجاع الكهان، «الحيوان» للجاحظ، «ألف ليلة وليلة» و»رسالة الغفران» للمعري)؛ وهذا كلّه يخلق من الفضاء الحجّي داخل الرواية «مسرحاً» كرنفاليّاً يتفلت من الضابط الأخلاقي، ومن ثرائها اللغوي صيغة مقاومة للعجمة والعيّ، ومن موضوعها حكياً سحريّاً ذا هوية عربية خالصة على غير ما أبدع فيه روائيّو أمريكا اللاتينية، ويخلق من الصحراء بيئة عقلية بدائية لا تفصل بين عالم الروح والمادة، وعالم الغيب والعيان، والشكّ والخلاص، ومن هويتها السردية المتوترة بين زمن الحج وزمن الشعر ضرباً من الأليغوريا عن ضياع المعنى والبلاغة والهوية والتاريخ، لاسيما إذا عرفنا أن الثلاثية كُتبت من وحي أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، التي قلبت صورتنا في عيون الآخر رأساً على عقب.
يعود الروائي إلى استثمار الرحلة الحجّية في روايته الجديدة «حج 2053.. رحلة منير أويو» مستلهماً وقائعها من الخيال العلمي على ضوء التطور التكنولوجي؛ حيث تقرر وكالة أمركية للحج والعمرة استخدام أحدث التقنيات لتيسير مهمة الحجاج والمعتمرين وتوفير أقصى درجات الراحة لهم، من ذلك زرع العيون الإلكترونية الضرورية للتغذية على الضوء انطلاقا من أشعة الشمس، فيقضي الحاج كامل فترة حجه وهو على وضوء، دون أن يتغوّط أو يبول أو يُحدث. كما تُؤمّن لهم – عن طريق برنامج يجري تحميله مباشرة في الدماغ – تحفيظ القرآن والسيرة النبوية ومناسك الحج حسب المذهبين الشيعي والسني، وأمهات كتب اللغة العربية وقواميسها، بل الاستمتاع بالجواري حسب الحاجة. ويغمز الروائي من خلال هذه القصة الخيالية إلى ما باتت تتيحه وكالات الحج والعمرة من إمكانات هائلة للراحة والاستجمام، تنسيهم ما كان تتعرض له قوافل الحجيج على ظهور الإبل والبغال والحمير من مشاقّ الطريق وأهواله؛ فقد كان الحجيج عرضة للقتل وكانت قوافلهم عرضة للنهب أو الضياع في الصحراء، كأنّ الحجّ القديم – والله أعلم- يزيد في الأجر والتضحية.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية