الشيخ حسن العطار… الغائب من السيرة

هذا كتاب جديد للكاتب والمفكر إيهاب الملاح، الذي يضيف إلينا دائما كل جميل فارق في البحث التاريخي والفكري والأدبي. لإيهاب الملاح كتب رائعة مثل «سيرة الضمير المصري» و«طه حسين.. تجديد ذكرى عميد الأدب العربي» و«تناولات قصص الحيوان في التراث العربي» وغيرها، تقريبا قرأتها كلها وكتبت عن بعضها، وأسعدني غاية السعادة أن أقرأ له هذا الكتاب الجديد الصادر عن دار «ريشة» بعنوان «الشيخ حسن العطار» الذي يعد الكتاب الأول في سلسلة سيكتبها تحت عنوان «المجددون».
ما هو شائع في التدوال عن الشيخ حسن العطار، لا يتجاوز كثيرا أنه شيخ رفاعة الطهطاوي، وهو من رشحه للبعثة إلى فرنسا في عهد محمد علي، أو تولي مشيخة الأزهر ذات مرة، لكن هنا حديث متسع عن النهضة المصرية وقضاياها، جعله مقدمة للدخول إلى حسن العطار نفسه، ورحلته في الحياة حتى وفاته. ما أنجزه من أعمال وكتب، وتشغل الكتب مساحة كبيرة تليق بالحديث عن المصلح والمجدد العظيم. الجميع تقريبا يقفون عند ما قام به رفاعة الطهطاوي الرائد النهضوي بغير منازع، لكنه يرى أنه ليس ممكنا قراءة ما قام به الطهطاوي دون الوقوف عند محطة الشيخ حسن العطار، التي هي المحطة التأسيسية التي كانت إرهاصا قويا بضرورة التحديث والنهضة والإصلاح والتجديد. الشيخ حسن العطار هو الذي أطلق الصيحة المدوية في أواخر القرن الثامن عشر قبل الحملة الفرنسية «إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها» وهي المقولة التي صارت أيقونة للمجددين في ما بعد.
رحلة رائعة مع من ذكروا حسن العطار من المؤرخين والمفكرين في كتبهم، مثل محمد عبد الغني حسن، والمؤرخ الأكاديمي الأمريكي بيتر جران، وعمر الدسوقي، وما كتبه علي مبارك عنه في «الخطط التوفيقة» وأحمد تيمور باشا، وعبد الله العزباوي وغيرهم الكثير. الحقيقة كم المراجع التي استعان بها إيهاب الملاح مذهل رغم حجم الكتاب الصغير. يمهد إيهاب الملاح للحديث عن الشيخ حسن العطار، بسؤال مولد النهضة المصرية.. متى بدأت؟ وبحديث مفصل عن اختلاف المفكرين في الأمر، فمنهم من اعتبرها مع الحملة الفرنسية، ومنهم من اعتبر الحملة الفرنسية عملية استعمارية أجهضت ما كان قد حدث من تطور وأفكار في النهضة. من أقطاب الفكر الأول لويس عوض وحسين فوزي ومحمد فؤاد شكري وعبد الرحمن الرافعي، الذين رأوا الاحتكاك بالغرب، سواء عن طريق الحملة الفرنسية أو مع محمد علي وبعثاته إلى أوروبا، هو أساس النهضة، بينما الاتجاه الثاني يمثله بيتر جران وسمير أمين ونيللي حنا وغيرهم، الذين يرون أن بوادر النهضة كانت من قبل في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. حديث ضافٍ عن الاتجاهين وعن القرن الثامن عشر نفسه، الذي ولد فيه حسن العطار عام 1766 وعاش بدايات حياته المهمة. القرن الثامن عشر قرن مظلوم، لأننا اعتدنا أن نقيسه على النهضة التي بزغت في القرن التاسع عشر، لكنه قياسا على الثلاثة قرون التي قبله، فهو الأقل سوءا، وكانت فيه بشائر النهضة التالية. حديث كبير عما ظهر فيه في ميادين مختلفة مثل الدراسات الرياضية الفلكية والشعر والنثر واللغويات والدراسات الدينية وغيرها. وإذا كان قد حدث انقطاع وقتي عند مجيء الحملة الفرنسية، فسرعان ما عادت أشكال النهضة المختلفة مع إنجازات الفرنسيين، مثل المجمع العلمي الذي زاره كثير من العلماء، ومثل المطبعة التي اختلفوا حولها، لكنها لاقت اهتماما من الكثيرين. كل ذلك بتفصيل وأسماء ومواقف وآراء. يأتي محمد علي باشا وما حدث في عهده من بعثات، لأنه وهو الأمي أدرك أن الدولة نفسها، هي التي يجب أن تفتح أبواب النهضة، فكان إلى جانب البعثات، تكوين الجيش ودخول المصريين فيه، وما استتبع ذلك من نهضة في الزراعة والصناعة، ليكون الجيش مستقلا في إمكاناته عن الخارج أو الدولة العثمانية، فضلا عن إدراكه لمخاطر المشروع الوهابي الذي بزغ في شبه الجزيرة العربية، وضرورة تجنب آثاره السلبية.
وسط هذا الحديث العام نعود إلى حسن العطار، يقسم إيهاب الملاح حياته إلى ثلاث مراحل. الأولى منذ الميلاد عام 1766 حتى جلاء الحملة لفرنسية عام 1801. الثانية من جلاء الحملة وسفره ورحلاته المتعددة لتركيا والشام، التي استغرقت أربعة عشر عاما حتى عودته عام 1815. والثالثة والأخيرة اتصاله بدولة محمد علي حتى وفاته عام 1835. من أهم ملامح المرحلة الأولى أنه من أصول مغربية. استوطن أسلافه مصر، وكان والده عطارا صغيرا له إلمام بالعلم، رأى طموح ابنه للتعليم فساعده في حفظ القرآن، والتحق بالأزهر وصار من نوابغه، فأجازه الأزهر للتدريس والفتوى، وكانت له حلقة في الأزهر يتحلق فيها حوله العلماء لتحرره الفكري، ودعوته إلى الأخذ بالعلوم الحديثة، فضلا عن اهتمامه بتنظيم أساليب تدريس النحو وغيره، ثم اتصاله بالحملة الفرنسية، بعد وصولها لمصر، وكيف كان يستفيد منهم الفنون المستعملة في بلادهم، ويفيدهم بتعليمهم العربية، حتى إنه بعد خروج الحملة من مصر ترك هو البلاد، وقيل خوفا من اتهامات بالشبهات في التعامل مع الفرنسيين. في المرحلة الثانية 1802-1815 فترة اغترابه بين تركيا والشام (سوريا وفلسطين) زار دمشق لدراسة التصوف، وبصفة خاصة تراث محيي الدين بن عربي، وأنجز مقالات كثيرة في علم الكلام وغيره. في تركيا تمكن من إنهاء عمله الرئيسي في الطب «رحلة الأبدان في نزهة الأذهان» عام 1814 وتحدث فيه عن أهمية غرف التشريح «التشريح خانة» وغيرها. تأتي المرحلة الثالثة بعد عودته 1815 حتى وفاته عام 1835 وفيها اختاره محمد علي ليكون رئيس مجلس المشورة الذي أنشأه محمد علي، وأشرف العطار على إنشاء المدارس، وكون في الأزهر ما سماه «نواة تيار الإصلاح في مصر» واختير شيخا للأزهر عام 1830 حتى وفاته. كان رفاعة الطهطاوي تلميذه الأكثر نباهة وذكاء، فأوحي العطار إليه بأهمية العلوم العصرية، وقدمه لمحمد علي ليكون إمام البعثة المصرية إلى فرنسا عام 1826 وهو الذي أشار إليه أن يسجل مشاهداته، فكانت في كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز».
ننتقل في الكتاب الرائع إلى كتب الشيخ حسن العطار وطريقته في التأليف، هو شاعر وكاتب ترك من القصائد المتفرقات والأبيات القصار ما يشهد بشاعريته. أكثر كتبه كانت شروحا وحواشي، مثل «حاشية العطار على التذهيب للخبيصي» وهو كتاب في المنطق، أو حاشية العطار على «متن سمرقند» وهو كتاب في البلاغة، أو حاشيته على شرح الأزهرية للشيخ خالد الأزهري وغيرها، يتحدث عنها المؤلف بتفصيل. اختلف المعاصرون ومن بعدهم على عدد كتبه، فغير الحواشي هناك رسائل علمية مثل رسالة في كيفية عمل الإسطرلاب، ورسالة في الطب والتشريح وغيرها. آراء الكتاب في كتبه، معاصرون له أو بعدهم. يُجمل إيهاب الملاح جهود العطار التجديدية في ثلاثة ميادين. أولها الثورة على الجمود الفكري، والدعوة إلى إصلاح الأزهر وإدخال العلوم والمعارف في دراساته. ثانيها الفكر والوعي بأزمة التخلف الحضاري والدعوة إلى الأخذ من علوم «الآخر» ومعارفه. ثالثها التجديد في الأدب واللغة وأشكال الكتابة الفنية وغير الفنية. يتناول إيهاب الملاح بعد ذلك كل ميدان وحده موضحا جهود العطار وإسهاماته. أما تلاميذ العطار فلم يقفوا عند رفاعة. منهم الشيخ إبراهيم الدسوقي ومحمد عياد الطنطاوي ومحمد عمر التونسي وغيرهم، ولهم جهود محمودة في الترجمة في عصر محمد علي.. هذه ملامح من الكتاب الذي ستجد فيه تفاصيل رائعة عن كل ذلك، ومتعة المعرفة كما تعودنا في كتابات إيهاب الملاح دائما.

٭ كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية