السويداء… دير الزور… إدلب

حجم الخط
0

كان على السوريين أن يغصوا بفرحتهم بانتفاضة السويداء ضد نظام الأسد، وتفاؤلهم الذي انتعش من جديد على وقع صمود أهاليها الذين قطعوا كل خطوط الرجعة واندفعوا بهمة عالية نحو إسقاط النظام.
ففي الوقت الذي دخلت الانتفاضة أسبوعها الثالث، كانت المعارك مشتعلة بين مقاتلين من بعض العشائر العربية شرقي نهر الفرات من جهة، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) من جهة ثانية، معارك وقع فيها كثير من المدنيين بين قتلى وجرحى، وبدت بلا أي أفق لتسوية تنهي القتال بلا رابحين وخاسرين.
تواقت ذلك أيضاً مع اشتداد قصف النظام والطيران الروسي لبعض مناطق محافظة إدلب وجوارها مما يطلق عليها «منطقة خفض التصعيد الرابعة» بضمانة تركية روسية.
تعقيد المشهد العسكري والسياسي في مختلف المناطق السورية، بسبب تعدد الفاعلين الإقليميين والدوليين وحلفائهم من القوى المحلية، يسمح بشتى أنواع القراءات القائمة على افتراضات لا يمكن التأكد من صحتها، كاتهام قوات سوريا الديمقراطية للعشائر التي تمردت على سلطتها بالتحريك من قبل النظام أو إيران، أو اتهام العشائر لـ«قسد» بالعمالة للنظام، أو اتهام جبهة تحرير الشام في إدلب بأنها استجلبت قصف النظام وروسيا بعد عمليات مؤلمة قامت بها ضد بعض مواقع النظام في المنطقة. أما تمدد قتال العشائر وقسد إلى محيط منبج فيمكن ببساطة ربطه بتشجيع تركي لمجموعات تنضوي تحت عنوان «الجيش الوطني» الموالي لتركيا، ليس فقط بسبب الصراع المعلن بين تركيا وقسد، بل أيضاً بسبب تصريحات الرئيس التركي، الثلاثاء، المؤيدة للعشائر ضد قسد التي يعتبرها إرهابية.
مع الاحتفاظ بكل التحفظات المذكورة بشأن وجود «أيد خفية» أشعلت نار الفتنة في منطقة دير الزور، ومع عدم إنكار احتمال وجودها أيضاً، يمكن للمراقب أن يلاحظ بالعين المجردة احتفاء إعلام نظام الأسد بالحرب الناشبة في الشرق، ومبادرته الفعالة في الحرب على الشمال الغربي، وعدم تدخل قواته الموجودة بجوار منبج في القتال بين «الوطني» وقسد. فهذه الحروب جميعاً تثلج قلب النظام المختنق بغيظه المكتوم وهو يرى انتفاضة السويداء تعيد الاعتبار لثورة 2011، ويسقط النشطاء تمثال حافظ الأسد ويمزقون صور بشار الأسد أمام الكاميرات، إضافة إلى تصاعد التذمر في مناطق الساحل، تذمراً بلغ مطالبته بالتنحي على لسان نشطاء ينتمون إلى الطائفة العلوية، وعودة انتظام معارضين جدد في منظمات سرية تخط شعارات مناهضة له على جدران مدن تحت سيطرة أجهزته، وتوزع منشورات تدعو الناس إلى التمرد.

من المهم العمل على إنهاء الاقتتال بين «قسد» والعشائر بتسوية لا يخرج منها أحدهما مهزوماً أمام الآخر

الاهتمام المستجد بسوريا في وسائل إعلام عربية وعالمية، وعلى ألسنة بعض الدبلوماسيين الغربيين، من بوابة انتفاضة السويداء وما عنته من فشل كل محاولات تعويم نظام الأسد باعتباره شريكاً في أي تسوية سياسية محتملة، سرعان ما انتقل (هذا الاهتمام) إلى شرقي نهر الفرات حيث الحرب الدائرة هناك والمنذرة بعواقب وخيمة كاحتمال تصاعد صراع عربي ـ كردي. هذا الانتقال في الاهتمام وحده مكسب صاف لنظام الأسد، وضربة لمكتسبات انتفاضة السويداء المعنوية التي كانت مبشرة بمكتسبات ملموسة في الطريق الشاق نحو طي صفحة نظام الأسد بصورة نهائية.
لهذا السبب من المهم العمل على إنهاء الاقتتال بين قسد والعشائر بتسوية لا يخرج منها أحدهما مهزوماً أمام الآخر. والحال أن المقابلة التي أجرتها محطة «العربية الحدث» مع قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، لا تبشر بأي خير في هذا الإطار. فقد تحدث الرجل بلهجة السلطة المطلقة التي يجب أن يستسلم أمامها الآخرون، من غير أي مراعاة لقيم العيش المشترك وموجباته الآن ومستقبلاً. وقد اتهم مقاتلي العشائر بأنهم على علاقة وثيقة مع النظام وإيران من جهة، ومع تركيا من جهة أخرى، وأن الصراع عبارة عن فتنة أشعلت فتيلها تلك القوى، متجاهلاً تراكم انتهاكات ومظالم قواته «الديمقراطية» بحق سكان المنطقة طوال السنوات السابقة، بما في ذلك انتهاكات قائد مجلس دير الزور العسكري المرتبط بقيادة «القوات» والمعين من قبلها، والذي كان اعتقالها له الشرارة التي أشعلت الصراع.
كذلك فإن وقوف الأمريكيين مع «قسد» في حملتها للقضاء على تمرد العشائر وإعادة بسط سيطرتها في المنطقة، قد يشكل سبباً لتحوّل اتهام العشائر بالتحريك من قبل نظام الأسد وإيران من فريّة سلطوية إلى حقيقة قد تهدد الوجود الأمريكي نفسه في المنطقة بمخاطر شديدة. فإيران التي تنتشر ميليشياتها في مناطق قريبة ستبذل جهدها لاستمالة العشائر ضد الوجود الأمريكي وحليفه «قسد».
لقد كشفت هذه الحرب عن حقيقة التقديرات التي شاعت، منذ أشهر، بصدد «مشروع» أمريكي مزعوم لوصل مناطق شرق الفرات بقاعدة التنف الأمريكية لتشكيل حاجز صلب يقطع طريق الإمدادات اللوجستية الممتدة من إيران إلى لبنان عبر العراق وسوريا. فعلى رغم النفي الأمريكي العلني لأي نوايا من هذا النوع، كان محللون من البيئة المعارضة لنظام الأسد وآخرون من بيئة النظام يكررون توقعاتهم بشأن هذا «المشروع». ما حدث الآن يشير إلى أن طهران هي التي تعد العدة لتعزيز مواقعها على هذا الخط اللوجستي، وليس هناك من سبيل أمثل من اشتعال حرب عبثية بين سكان المنطقة والقوات المسيطرة عليها لتحقيق هذا الهدف.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية