الزمن المفقود في غزة

حجم الخط
0

مع العدوان على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبداياته الكارثية بالتدمير الحربي للطيران، جلست برفقة صديق، ونحن نقيم «خارج المكان». الأهل والأصدقاء جزء منهم في دير البلح، وجزء وسط المدينة، جلسنا نتحدث عن الأماكن، نستعرض الصّور والأشخاص والذكريات والأزمنة، في تلك اللحظة لم يكن الانتباه يقظاً لما يحدث من حولي، رغم تدفق الأخبار والأنباء بشكلها المتسارع. أحاور صديقي وهو في حالة صمت، أيقظني صمته، فجأة صرخ بحزن شديد وغضب «توقف عن الكلام، ما تتحدث عنه لم يعد موجوداً، لقد مُسحت الأماكن في غزة، واستشهد الكثير من الأصدقاء» هنا كنت يائساً أشد اليأس، تذكرت فجاءة صورة آخر زيارة ليّ في غزة عام 2022 في المينا قرب البحر، امتلكني الخوف وعدم السيطرة على وجداني وحياتي وطفولتي في فلسطين، كيف يفقد الإنسان حياته فجأة دون مقدمات؟ رغم وجود مقدمات الإبادة التي قدمها الاحتلال في سنوات سابقة، تذكرت الأصدقاء وشريط الحياة، منذ الطفولة حتى مرحلة الشباب في الوطن وخارجه.. وقد مُسحت، وغادر الرفاق إلى السماء، تذكرت في تلك الليلة، فصلاً من مذكرات نيرودا «خرجت أبحث عن الشهداء» وفصلاً يقول لي: غزة في القلب، كما كانت إسبانيا في قلب الشاعر، مع اللحظات الصعبة، أتذكر مقولات الشهيد الكاتب رفعت العرعير، عن رواية القصص وقوتها، ونضاله بالقصة والرواية، مؤمناً بقوة الكتابة، يكتب رفعت العرعير، الذي استشهد في 6 ديسمبر/كانون الأول 2023 «الرواية بالنسبة إليّ، هي أحد عناصر الصمود الفلسطيني، وهي تعلّم الحياة حتى لو عانى البطل أو استشهد في النهاية. وبالنسبة إلى الفلسطينيين، فإن القصص تصقل المهارة اللازمة للحياة» وقد أصبح زمن الشهيد أن يروى ويرد بالكتابة، ويُقتبس منه ما كان يكتب.. حتى قراءاته اللافتة في الزمن الفلسطيني.
لم استوعب معنى الفقد.. في تلك الليلة خرجت من عقلي لأبحث عن الأصدقاء والذكريات، في وقت مفقود مع الحرب، السؤال داخل المكان ينهض يسأل عن توقيت العودة، عن موطن حدود الإنسان في بيته ومكانه وعالمه في بلاده، تدخل غزة من الجنوب أوالشمال، تشاهد منذ الخطوات الأولى المدينة وما يعطي الحياة أشكالاً من البهجة، وما يحيط بها من الطبيعة الحياتية، رغم الحصار والاحتلال والظلم الاستعماري، تعيش بداية ما كنت تعيشه سابقاً، تسترجع الماضي وما طرأ عليه من تغيير بسبب الجرائم الإسرائيلية.. كل ذلك أصبح في كلمة صعبة قاسية الاختيار واللفظ «ركام» كنت أحاور فنانا تشكيليا في غزة، عن مرسمه المتحطم، عن بيته وقد صار كومة من الركام.. ليقول بانفعال: «لا تقل هذه الكلمة، لأنها تحمل قسوة صعبة على النفس».. أخذت أبحث في الأوراق عن الرسائل بيني وبين الأهل والأصدقاء، رسائل تحمل السؤال عن «الزمن المفقود» ولم يعد ذلك الآن موجودا،
الذكريات التي نكتبها مثل طفل وُلد لمرات عديدة ولا يزال «يرضع الحمى من ثدي الأرض» المدينة قبل حرب الإبادة، كانت تعج بالذكرى وصنع الذاكرة، حيث الأصدقاء في الأماكن التي نتردد عليها، في البيوت التي نجلس داخلها لساعات طويلة، في الأرض الزراعية ومواسم القمح والنخيل والزيتون، ومزارع الفراولة شمالاً، كل ذلك أصبح بين قوسين كلمة الركام. أطلب من أختي أن تخلي البيت هي وأطفالها، لأن الاقتحام لسلطات الاحتلال يزداد خطورة، تقول «نذهب ونترك أرواحنا هنا، هذا لا يمكن أن يكون» أقول لها عبر التلفون رغم صعوبة الاتصال والتواصل، الإنسان حياته وذكرياته معلقه في صدره وروحه.. لم يخطف النسيان منّا الأحلام وروح الحياة، فقد ظلّ الناس في غزة يستنطقون الأماكن.. يكتبون على الحجر سيرتهم، وفي ماء البحر يضع كل منّا طفولته حتى آخر سنوات عمره ويكتب التاريخ، كتب صديق ليّ من غزة في دفتره الأزرق «أنا من غزة وليّ ذكريات». لا شيء ينتهي ما دام الإنسان يقتبس من وجدانه أزمنه وشريط مسيرته، يكتبها، يرويها، يحفظها، وكل ذلك على أمل أن يعود يوماً للمكان، والزمن بطبيعة الحال لا يعود إلا في استرجاع سطر من الماضي.. فكيف بالإنسان في غزة، وقد ملأ الفقد كيانه البشري، لم يعد المكان موجوداً، هذه الحقيقة..المدينة في الصّور صارت جبالا من الموت والمدن المحطمة، وهذه قصة أخرى في التواصل مع الأهل والأصدقاء وكل من هناك.. ماذا تقول؟ ماذا تكتب لهم؟ وكيف تسأل عن حال من هو داخل هذا الركام والحطام؟ كيف للزمن أن ينسى سؤال الحدث الواقع، يدخل الاحتلال إلى المدينة ويحطم حياتنا وأرواحنا.. يطارد الإنسان ويهدم البيوت والمساجد والملاعب والكنائس والمستشفيات وكل الأماكن؛ والصّور خير شاهد ودليل على حجم الكارثة الواقعة.. هذا الاحتلال نشأ على تربية أدمغة الكيبوتس والتهجير الصهيوني إلى فلسطين المحتلة ..غزة ميادين وأعمدة من التاريخ المكتوب، رزمانة حياة الفلسطينيين، أزالها الاستعمار، الصورة والهيئة التي يعيشها عليها المرء في البلاد المحتلة والتي دمرها الاحتلال…
على مستوى المكان دمر الاحتلال أكثر من 200 موقع أثري، ومركز ثقافي وتعليمي، دمّر الجامعات وحتى المقابر «حتى الموتى لن يكونوا بمأمن من العدو» هذه الأمكنة الراحلة من الواقع، المتجسدة في الذاكرة الشهيدة، هي تعبير عن رحلة لا تنتهي في مسار الزمن الفلسطيني، هناك تتجسد داخل المكان صور مقبلة تنطق بحجم المأساة، بينما في الخارج يعيش الإنسان الفلسطيني على حياة مُسحت منها أشرطة الذكرى، هذا لا التأمل القاسي لا يدخل فلسفة النظريات بل يجعلها «رماد النظرية» إذ فشلتْ كما فشل القانون والأنظمة السياسية من منع المجازر والإبادة الرهيبة في غزة، وتركتْ الناس هناك في مواجهة مع الموت المتواصل بلا أمان، وعطاء لمعنى الحياة.. في الخيام وأماكن الإيواء وقد صارت مدينتي دير البلح وسط القطاع، كما رفح جنوباً، مركز الإيواء بين النخيل، ومع اشتداد موسم الحرارة هذه الأيام، بدأ النازحون الذهاب إلى البحر، ليصبح كل جسد على البحر في مقولة حسين البرغوثي « وجهك شاطئ» كان قبل الحرب، البحر مكان الحياة والترفيه والاستجمام، اليوم الناس في غزة تذهب بحثاً عن الأماكن الأكثر أمانا من العدو، وأسلحته الملوثة، وحتى على البحر خرج الناس للبحث عن مكان أقل حرارة من الخيام، والبحث عن الشهداء بعد أن طاردتهم طائرات الاستعمار وهم في وقت اللجوء، ومن قبل الحرب كانت تطاردهم وهم يلعبون ويقضون الأوقات الخاصة العائلية والصداقة. هذا ما يريده الاحتلال مسح الحياة من العقل الفلسطيني ووجدانه، حتى هدم ومسح الذاكرة والرواية الفلسطينية، إن ما تعيشه فلسطين هذه الأيام في سجل من الجرائم الإسرائيلية المتواصلة، تؤكد وتعطي تعريفاً أشد وضوحا عن الفكرة الاستعمارية واقتلاع الشعوب من موطنها، سرق الاحتلال من القلب الفلسطيني حياته وروحه، وحتى ذاكرته، في محاولات لسلب الإنساني الفلسطيني كما سُلبت أرضه وطفولته وحقوقه.. وعلى الذكرى نعود لنكتب «ذاكرة للنسيان» ونستدعي من غزة وكل فلسطين، لكل من هناك أن يكتب الحكاية في قاموس الفقد الفلسطيني الذي يعيش زمن الإبادة.

كاتب فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية