الروائي العراقي سعد سعيد: أرفض أن أقدّم للجمهور هاري بوتر عراقي

حاوره: مروان ياسين الدليمي
حجم الخط
0

خلال العقدين الماضيين تمكن سعد سعيد من أن يثري المشهد الروائي العراقي عبر خمس عشرة رواية أصدرها، فكان نتاجه تأكيدا على أن الأدب في صلته مع الحياة والوجود الإنساني، ينبغي أن يكون مأهولا بالتخييل بالقدر الذي تكون علاقته مشروطة بتواصلها مع الواقع والتاريخ، وبالإضافة إلى جرأة ما يتناوله من موضوعات حساسة، يجد القارئ لنتاجه صعوبة، إذا ما أراد أن يفك اشتباك الواقع بالخيال، فغالبا ما يتلاشى الخيط الرفيع الذي يفصل بينهما. وعبر أسئلة تتعلق بأفكاره وعالمه الروائي وطقوسه في الكتابة، حاولنا أن نكوَّن صورة مقرَّبة عنه في هذا الحوار.

□ أسئلة الحداثة وما بعدها، هل وجدت إجابات ناضجة في النتاج الروائي العراقي؟
■ يا لبلوة الحداثة التي لا تريد أن تفارقنا! أنا لا أريد أن أدخل في تفاصيلها هنا، لكنّني أؤمن بأنّ الحداثة في منبعها، أساءت إلى الأدب والفنّ، والأسباب لا مجال لذكرها هنا، الحداثة بالروح والأفكار، لا بالشكل، ولكلٍّ أن يعبّر عن ثقافته الخاصّة بالطريقة التي يرتئيها ما دام روائيا حقيقيا، أمّا عندنا كعرب، فقد كانت الحداثة سببا في التخبّط وضياع الأهداف الحقيقية، وأنا لا أفهم ما العلاقة بين أسئلة الحداثة وما بعدها، وما بعد بعدها، إن جاز التعبير، والنتاج الروائي، فتلك أسئلة تتعلّق بالخصومات بين النقّاد والأكاديميين العرب، الذين يختصمون، بلا فهم للأصل الذي نتج عنه ذلك الخلاف، في ظلّ الاعتماد على ترجمات لما غمض علينا من فلسفات ورؤى لم تتهيأ لنا الفرصة لنفهمها أصلا، وزادتها غموضا ترجمات غير علمية فرضت علينا من مترجمين لم يسألهم أحد عن مؤهّلاتهم التي تبيح لهم ترجمة مسائل لم تتوضّح حتى للناطقين باللغات التي ترجموا عنها. دعنا نتّفق أولا أن تلك خصومات خاصّة بين المذاهب الطوباوية التي آمن بها نقّاد وأكاديميون فُرض عليهم الاختلاف، لأنّهم لم يسعوا يوما إلى الاتّفاق على ما يسعون لفهمه حتى قبل تعميمه على من يستمعون إليهم، أو يؤمنون بما يسمعونه منهم. الروائي الحقيقي لا ينتظر شرعية من قبل منظّرين لم يسألهم يوما المساعدة لتوضيح ما يريد قوله، فالروائي صانع محتوى حقيقي، يبتدعه من رؤاه الخاصّة وخياله وفهمه الطبيعي لما يحدث من حوله.

□ بعد عام 2003 ما الذي يشغل تفكير الروائي العراقي مقارنة بالأجيال التي كانت تنتج قبل هذا التاريخ؟
■ هل شعرت يوما مثلي، بأنّ أغلب النتاج الروائي العراقي بعد 2003 يبدو كأنّه نسخ متعدّدة لأصل واحد؟ طبعا هناك استثناءات، لكنّها قليلة إلى الحدّ الذي يجعلها لا تصلح للوقوف في وجه الظاهرة الغريبة التي ذكرناها قبلا. فبعدما كانت الأجيال السابقة تهتم بالأسئلة الوجودية والعرفانية، وتتهرّب من التورّط بالمسائل السياسية، نجد أنّ الأجيال اللاحقة امتهنت السياسة حتى أفرغتها من محتواها الحقيقي، فكانت مواضيع النظام السابق والاحتلال وداعش، السمة الغالبة لطوفان الروايات التي ظهرت، بعد أن أصبح في إمكان أي إنسان يمتلك نقودا أن يطبع لنفسه رواية، والغريب هو أنّ كلا الطرفين أهمل قضايا المجتمع الذي كان يتدهور باطراد، كأنّه أمر لا يهمهم.

□ ما أبرز العناصر الفنية التي لا يمكن أن تتجاوزها في أيّ عمل روائي مهما تغيرت الأساليب بعدا واقترابا من مظاهر الحداثة والتجريب؟
■ الحبكة، ثمّ الحبكة، ثم الحبكة، وهذا لا ينقص من قيمة العناصر الأخرى، فالرواية الجيدة توليفة متكاملة من عناصر يجب أن تكون متوفّرة جميعها، وبإتقان، لكنّني لا أفهم كيف يمكننا أن نعتبر نصّاً لا حبكة فيه رواية؟ وهذا لا يشمل الرواية في العراق أو الرواية العربية فحسب، بل هناك روايات عالمية حقّقت شهرة كبيرة، لا أرى أنّها رواية لهذا السبب.

□ إلى أيّ مدى يمكن أن تكون الرواية في عصرنا الراهن قادرة على التأثير والحضور في الحياة، وفي التكوين الثقافي للفرد والمجتمع؟
■ أعتقد أنّ الرواية في عصرنا الراهن بدأت تفقد تأثيرها لصالح أنماط معرفية جديدة، وألعاب التسلية التي بدأت تتطوّر بفعل التقدم العلمي الهائل، الذي بدأ يطوي المسافات الزمنية بسرعة عجائبية، الأمر الذي يحتّم تأثيرها على الأجيال الصاعدة، خاصّة مع تطوّر النظم الإدارية والتسويقية للشركات المصنّعة، التي تحوّلت إلى كيانات مرعبة تعرف كيف تسيطر على الأسواق وتؤثّر على العقول، دون روادع أخلاقية ما دامت هي نفسها تحكم العالم المعاصر. ومع ذلك، أعتقد أيضاً أنّ الرواية ستحتفظ بقدر متميّز من التأثير على محبّيها وعشّاقها، لكن هذا مشروط بأن تبقى مصدر متعة لهم، وألا تنزلق في مطب التسفيه الفنّي، الذي تتسبب به بعض الأفكار التحديثية المغرضة. الأمر يتعلّق بمدى اهتمام المجتمعات بثقافة أجيالها، وقدرة الحكومات على بثّ القيم الأصيلة في المناهج التعليمية المعدّة لمواطنيها، لكن تأثّر الرواية حتمي مع مرور الزمن واطراد التقدم العلمي المهيمن، لكن الرواية ستبقى ما دام هناك ولع بها يتنامى في نفوس بعض البشر، فالأمر يتعلّق جانب منه بنوعية الشخصيات الإنسانية وذائقاتها، نعم، سيكون جمهورها أقلّ من أيّ وقت سابق، لكنّها ستبقى لوقت طويل مقبل.

□ الواقعية، كقيمة جمالية وتقنيات في السرد وبأشكالها المتعدّدة، كيف تقيّم حضورها في الكتابة الروائية وفي عملية التلقّي؟
■ الواقعية بالنسبة لي واجب، وليست مجرّد خيار، فأنا ابن مجتمع مأزوم، ولا بدّ لي من محاولة تقديم أفضل ما عندي، عسى أن أشعل شمعة واحدة له بجهودي الخاصة، لكن من المؤكد أنّ هذا لن يجعلني أنتقد غيري، إن لم تكن الواقعية خياره، فالمجتمعات مختلفة، وكذلك هي القناعات، فأنا أعتقد أنّ المطلوب من الروائي الغربي، الذي يعيش في مجتمعات أكثر استقراراً هو غيره المطلوب من روائي عراقي، أنا أفهم لِمَ قد يتعب روائي أوروبي أو أمريكي لسنوات، لكي ينتج روايات مثل هاري بوتر، أو سيد الخواتم أو غيرها من الروايات التي أصبح تأثيرها عالمياً بفضل السينما والتلفزيون، خاصّة بعد حساب المنفعة المادّية الكبرى التي يحقّقها بفضلها، لكنّني أعتبر هذا شيئا كماليا بالنسبة لمجتمعي الذي يكاد يتمزّق بسبب مشاكله البنيوية الحادّة، نعم، سألتزم بواقعيتي ما دمت أرى أنّها الأكثر شرعية، حسب الظروف التي أعيشها، وأرفض تماماً أن أقدّم للجمهور هاري بوتر عراقي، حتى إن كان ذلك باستطاعتي، خاصّة أنّ عملية التلقّي عندنا تختلف تماماً عنها في المجتمعات المتقدمة، ما قد يجعل النتاج عرضة لسوء الفهم، ممّا يمكن أن يؤدّي إلى تداعيات خطيرة.

□ ما حدود العلاقة بين الرواية والتاريخ؟ وهل من نماذج روائية عراقية تجدها عكست وبنضج فنّي هذه العلاقة؟
■ التأريخ مادّة دسمة جدّا، ولا حدود لتسوّق الروائي الحاذق منها، خاصّة حين يكون مطّلعا جيّدا على التاريخ وثناياه، وأنا أرى أنّ الرواية التي تعتمد على التاريخ أسهل نسبيا بكتابتها من الروايات المتخيّلة، لتوفّر معظم مادّتها مسبقا، ما يهوّن الأمر على كاتبها، لكن على حدود علمي، لم أقرأ رواية عراقية ناضجة تعتمد التاريخ مادّة لها، لعلّها تكون موجودة، لكنّني لم أطّلع عليها. وعلى كلّ حال، أنا أفترض أنّ الكتابة عن التاريخ في العراق أمر معقد جدّا بسبب الانقسامات والتوترات، والأقسى مبدأ التقديس الظالم الذي يكلكل على المجتمع بظلماته.

□ الكتابة الروائية تحتاج إلى عزلة تامة، بينما سعد سعيد له مكان خاصّ للكتابة في إحدى الكافيهات، اعتاد أن يركن إليه، كيف تستطيع أن تكتب في مثل هذه الأجواء؟
■ أنا أتفق مع فكرة العزلة التامّة، لكن هذا يبدو كأنه رفاهية زائدة لا يمكننا أن نطالب بها بسبب الظروف الاجتماعية لكلّ منّا، للكاتب الغربي الإمكانية في أن يتمتّع بالعزلة التي يريدها، وله فوق ذلك طقوسه الخاصّة التي يمكن أن يوفّرها لنفسه، فهو حين يكتب إنّما يصنع ثروة قد تكفل معيشته ومعيشة أهله مدى الحياة، وهو ما يدفع المحيطين به إلى بذل أقصى الجهود لتوفير العزلة التي يحتاجها، وهم له من الشاكرين، لكن ماذا عنّي أنا الذي أكتب رواية وأنا أفكّر بكيفية تدبير مبلغ طبعها ونشرها، خاصّة في الفترة الأولى، ماذا عن الطماطم؟ ماذا عن الخبز؟ ماذا عن احتياجات البيت؟ ماذا عن الأشغال اليومية التي يجب أن تقوم بها مهما كانت الظروف؟ ألا ترى أنّ الحديث عن عزلة تامة بعد كلّ هذا ضرب من لا واقعية قد يقترب من الفنتازيا؟ نعم، في بدايات تورّطي بعالم الرواية بحثت عن العزلة، وكنت أنتظر سكينة الليل حتى تحلّ بعدما تقرّبني ساعته من الملل والجزع، لكنّها حتى حين تحلّ، هل أستطيع أن أضغط على زر الكتابة في عقلي، لأكتب؟ ألا أحتاج إلى المزاج المناسب؟ وهل الأستاذ وحي يعيش معي في البيت لأوجّه إليه أوامري ليعينني؟ وهكذا كانت الليالي تضيع أحيانا، وفي أحيان عديدة، أبقى حزينا، كسيرا لأنّني عاجز عن تدوين الأفكار التي تقضّ مضجع عقلي طوال الوقت. وقفت في مفترق طرق بعد نجاحي في نشر روايتي الأولى، فإمّا أن أتوقّف عن تنفيذ الحلم الذي بقي يراودني طوال عقود، قبل أن أخطو خطوتي الأولى، أو أن أجترح طريقة تمكّنني من عيش حلمي الثمين في الواقع، وهذا ما تحقّق بفضل تمكّني من الكتابة في «الكافيه» التي منحتني فرصة أن أكتب سبعا من رواياتي الخمس عشرة المنشورة، وطبعا لم تكن البدايات سهلة، لكن إصراري جعلني أنجح، فوجداني مثقّل بالكثير مما أريد قوله قبل أن أرحل.

□ بعد خمس عشرة رواية أصدرتها خلال عقدين من الزمان، ما الذي أيقظ فيك دافع الكتابة، ولماذا الإصرار على الاستمرار؟
■ دافع الرواية كان موجودا قبل البدء بسنوات، وكلّ ما كنت أنتظره هو الفرصة المؤاتية للتنفيذ، وأقصد بالدافع هنا هو الدافع المباشر المتمثّل بوعد لزوجتي بأن أكتب لها رواية يوما ما، لكن هل يكفي وعد بأن نكتب رواية؟ طبعا لا، فالأمر أعقد بكثير، ولا يتسع الأمر هنا لشرحه، أمّا لماذا الإصرار على الاستمرار، فمن الذي يمكنه أن يذوق حلاوة كتابة الروايات، ثم يتوقّف؟ الرواية يا صديقي ولع وإدمان، قراءة وكتابة، وأنا من المبتلين بها، لحسن حظّي.

□ هل يمكن في لحظة ما أن تتخذ قرارا بالتوقّف عن الكتابة؟
■ اتخذت هذا القرار مرّات عديدة، لكنّني كنت أنساه ما أن تداعب عقلي فكرة لرواية جديدة، واتّخذت مرّة أخرى قبل شهر، بعد إنجازي لروايتي السادسة عشرة، وما زلت صامدا، والله يستر.

إصدارته الروائية: «الدومينو» «هسيس اليمام» «يا حادي العيس» «ثلاث عشرة ليلة وليلة» «إنسانزم» «خلدولوجيا» «صوت خافت جدا» «السيد العظيم» «فيت» «آيو» «موت رخيص» «فيرجوالية».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية