الديمقراطية الغربية وقمع حرية التعبير

«إنه بلد حر» تُقال في وجهك، باللغة الإنكليزية، في كل دول الغرب الرأسمالي، وخاصة أمريكا، كلما وجهت نقدا إلى سلوك أو تصرف تعتقد أنه لا يتماشى مع منطق وطبيعة الأشياء. يقولها القائل رافعا أنفه معجبا بحاله، وراسما إبتسامة مهذبة، قد تحتار فيها، وكأنها تقول لك أنا أستمتع بالحرية في بلد القانون والمؤسسات والديمقراطية الليبرالية، بينما أنت تفتقد ذلك في بلدك حيث الديكتاتوريات والحروب العبثية وغير العبثية وقمع الحريات.
ولكن، ما نشاهده الآن، ومنذ أكثر من ستة شهور، في بلدان الديمقراطية الليبرالية التي يتفاخر مواطنوها وصانعو قراراتها بديمقراطيتهم وارتفاع مستوى الحريات، من قمع عنيف لحرية التعبير السلمي المتمثلة في التظاهرات والاعتصامات الشبابية والطلابية احتجاجا على جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، قطعا يصيب هذا التفاخر ومقولة «أنه بلد حر» في مقتل. وأنت تتابع مشاهد قمع الاحتجاجات وفض الاعتصامات بالعنف المفرط، والحديث عن المندسين والمتفلتين وتخريب الممتلكات العامة، تظن للوهلة الأولى أن تلك المشاهد تأتي من إحدى دول جنوب العالم المضطربة، أو دول «العالم الثالث» كما يطلق عليها.
جوهر الاحتجاجات والاعتصامات هو القول بالصوت العالي كفى دعما لعربدة إسرائيل وجرائمها ضد الشعب الفلسطيني، وكفى محاولات الترهيب برفع عصا معاداة السامية في وجه كل محتج على مجازر إسرائيل التي ذبحت ما يقترب من الخمسة وثلاثين ألفا من سكان قطاع غزة العزل، ومطالبة الحكومات بوقف تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، ومطالبة إدارة الجامعة بقطع علاقاتها مع شركات السلاح الداعمة لإسرائيل. وغض النظر عن تعدد فحوى شعارات الاحتجاجات، فإنها تدلّ على الفجوة الكبيرة وعدم التوافق بين صانع القرار من جهة، وأولئك الطلاب ومعلميهم الذين انضموا إليهم أيضا في احتجاجاتهم، من جهة أخرى.
واتساع رقعة الاحتجاجات من اليابان شرقا وحتى المكسيك غربا، مرورا بمعظم بلدان أوروبا وأمريكا وكندا، يؤكد على أنها ليست مجرد ظاهرة محدودة ومعزولة أتت من فراغ، وإنما هي، كما أكد الخبير في الشؤون الأوروبية والدولية حسام شاكر، «طور جديد وحالة تطورية لتراكم الخبرة الجماهيرية والفعل الشعبي وأحداث الاعتراضات المتعددة التي شهدتها بيئات حول العالم، وبالأخص الأمريكية».
ومن الواضح أن الشروخ على جدران الديمقراطية الغربية، تزداد الآن اتساعا وتصدعا. وكنا قد أشرنا في ذلك المقال إلى مكتوب خطه صاحب «نهاية التاريخ» فرانسيس فوكاياما، في الفاينانشيال تايمز، عدد السبت 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، يذرف فيه الدمع مدرارا على ما سيحدث للنظام الليبرالي عقب فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية، وبدا وكأنه يستعد لإعادة النظر في أطروحته عن توقف عجلة التاريخ ونهايتة عند النظام الليبرالي الرأسمالي. كتب فوكاياما، «أن النظام الليبرالي، الذي أخذ في التشكل منذ خمسينيات القرن العشرين، أخذ يتعرض ﻟﻠﻬﺠﻮﻡ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﺍﻷﻏﻠﺒﻴﺎﺕ الديمقراطية الغاضبة والمفعمة بالطاقة والحيوية، مشيرا إلى أن هناك ثمة خطورة هائلة من الانزلاق نحو عالم من القوميات المتنافسة والغاضبة في نفس الوقت، ومحذرا من أنه إذا ما حدث ذلك فإن العالم سيكون بصدد لحظة تاريخية حاسمة أشبه بلحظة سقوط حائط برلين 1989».

إذا استمر التناقض الخطير الراهن بين السوق العالمية والسوق الوطنية، فربما لن يكون هناك أي أمل في الحدِ من هذه الحروب وفي تقليص التنافس من أجل السيطرة على الموارد، وفي التنمية أو حتى الحفاظ على مستويات المعيشة الحالية

وواصل فوكاياما أطروحته في المقال، مشيرا إلى فشل النظام الليبرالي الأمريكي، حيث يبدو ﺍﻟﺤﺰﺏ ﺍﻟﺠﻤﻬﻮﺭﻱ ﻭﺍﻗﻌﺎ ﺗﺤﺖ وطأة هيمنة ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺎﺕ ﺍﻟﺘﺠﺎﺭﻳﺔ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﻭﺣﻠﻔﺎﺋﻬﺎ ﺍﻟﺬﻳﻦ جنوا ﺃﺭﺑﺎﺣﺎ طائلة ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻮﻟﻤﺔ، بينما ارتبكت أولويات ﺍﻟﺤﺰﺏ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻲ لتصعد في مقدمتها ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑقضايا اﻟﻬﻮﻳﺔ والنسوية، والأمريكيين من أصول أفريقية ولاتينية، والمدافعين عن البيئة، ومجتمع المثليين والمتحولين جنسيا. وختتم فوكاياما مقاله بدعوة النخب التي أوجدت النظام الليبرالي ﺇﻟﻰ الاستماع ﺇﻟﻰ ﺍﻷﺻﻮﺍﺕ ﺍﻟﻐﺎﺿﺒﺔ ﺧﺎﺭﺝ ﺍﻟﺒﻮﺍﺑﺎﺕ، ﻭالتفكير ﺑﺎﻟﻤﺴﺎﻭﺍﺓ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺍﻟﻬﻮﻳﺔ ﻛﻘﻀﺎﻳﺎ ﺫﺍﺕ ﺃﻭﻟﻮﻳﺔ قصوى ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺍﻟﺘﻄﺮﻕ ﻟﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺎﻝ.
صحيح أنه منذ انتهاء الحرب الباردة بدأت تتكشف لنا، يوما بعد يوم، حقيقة افتقار المنظومة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية لليبرالية إلى أي رؤية متسقة ومنطقية لإخراج البشرية من حالات التمزق والتنافس والتفاوت الصارخ في مستويات المعيشة وممارسة الحقوق والتمتع بالحريات الأساسية. وتتأكد هذه الحقيقة اليوم بشكل صارخ من خلال قمع حرية التعبير، والذي لا يتم حماية لإسرائيل بقدر ما يأتي خوفا على جسد المنظومة النيوليبرالية التي طالت جدرانها التصدعات. وهذه المنظومة وضعت الرأسمالية على المحك كإطار لإدارة الموارد العالمية المادية والبشرية، لكن الرأسمالية فشلت في ذلك، مثلما فشلت في تحقيق آمال الشعوب في العدالة والحرية والديمقراطية، والتي كانت تعلقها على النظام الاشتراكي ولكنه فشل أيضا، ثم انتقلت بها إلى الليبرالية وإقتصاد السوق بعد إنهياره. وفي واقع الحال، من الواضح أن انتصار الرأسمالية الليبرالية أبدا لم يؤدِ إلى أي نتائج ملموسة فيما يتعلق بتحقيق التنمية الاقتصادية ودولة القانون والديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان وكفالة الحريات الأساسية بشكل تام. فلم يرَ العالم سوى الحروب الداخلية والخارجية المدمرة، التي لن تؤدي في النهاية إلا إلى الاستقطاب الاجتماعي في داخل الدول الوطنية، وحرمان الشعوب الأضعف من مواردها وثرواتها لمصلحة الدول الأقوى لزيادة فرص النمو فيها وتقوية حظوظها في حرب المنافسة الإقتصادية والاستراتيجية العالمية. وفي هذا السياق تأتي الحرب المندلعة في بلادنا. وإذا استمر التناقض الخطير الراهن بين السوق العالمية والسوق الوطنية، فربما لن يكون هناك أي أمل في الحدِ من هذه الحروب وفي تقليص التنافس من أجل السيطرة على الموارد، وفي التنمية أو حتى الحفاظ على مستويات المعيشة الحالية في معظم بلدان العالم. خلاصة القول، ما يجري اليوم في بلدان الديمقراطية الرأسمالية، يؤكد دخول النظام الليبرالي العالمي في أزمة نبعت من داخله، وليس بسبب أي قوى خارجية. وعموما هذه القوى الخارجية أصلا غير موجودة، أو غير منظمة حتى الآن.!

كاتب سوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية