الدعوة إلى الحوار الوطني في السودان

ليست ثقافة الحوار طارئة على الرئيس السوداني عمر حسن البشير، فقد اعتاد الرئيس قبل عدة سنوات أن يوجه الدعوات للصحافيين السودانيين العاملين في الخارج للتباحث حول هموم الوطن، وكان هناك تأمين تام للصحافيين مهما اختلفت مشاربهم، وأذكر أنني تسلمت دعوة قبل عدة سنوات وسافرت إلى الخرطوم وكنت حريصا أن أستمع إلى كلمة الرئيس البشير في تجمع الصحافيين، ولم يأت الرئيس البشير كعادة الرؤساء ليقرأ من ورقة، بل كان يرتجل كلامه بصورة عفوية، وقد دهشت من إلمام الرئيس البشير الثقافي، وتساءلت هل نظام الإتقاذ الذي يقوده مثل هذا الرجل المثقف نظام عسكري، وكانت إجابتي التي اقتنعت بها هي أن النظم العسكرية التي حكمت السودان نحو نصف قرن من الزمان ومنذ أن نال السودان استقلاله في عام1956 ليست كالنظم العسكرية التي حكمت في مناطق أخرى من العالم العربي، فهي ليست نظما تعسفية وإنما هي نظم كانت تمثل البديل المناسب في ظروف السودان السياسية المعروفة، ولم تكن النظم العسكرية في أي مرحلة من مراحلها نظما قاهرة إلا في حالات قليلة، بل كانت تحكم دائما بروح «أولاد البلد» وهذا تعبير شائع في السودان يرمز إلى التقارب بين جميع أفراد الشعب في السودان، ذلك أن النظم العسكرية لم تكن نظما منعزلة من أفراد الشعب بل كانت تفتح المجال للمشاركة، وكان جميع قادتها يمارسون حياة عادية خاصة في المناسبات العامة كالأفراح والأتراح التي تتطلب شيئا من المجاملة أو المواساة . ولكن السؤال المهم الآن هو لماذا قررت حكومة الإتقاذ في هذه المرحلة بالذات فتح باب الحوار؟
الإجابة بكل بساطة لأن نظام الإنقاذ حكم نحو ربع قرن، وهو نظام عادي لا يعرف بالخشونة، ونظرا للظروف الحادثة في عالم اليوم وفي العالم العربي بصفة خاصة، فما الذي يمنع من فتح باب الحوار وجلوس سائر فصائل المجتمع إلى جانب بعضها بعضا من أجل التوصل إلى صورة تكون مقبولة لدى الجميع، ولكن بكل تأكيد فإن فتح باب الحوار لا يعني فقط التوصل إلى الصيغة المقبولة، ذلك أن المواقف من الحوار قد تتباين وذلك ما نحاول أن نستجليه في هذه المرحلة .
وفي البداية نركز على آلية الحوار التي أطلقها الحزب الوطني الحاكم بالتعاون مع اللجنة المعروفة باسم 7+7، وهي آلية تقوم على تكوين لجنة ثلاثية من الحكومة والمعارضة تقوم باجتماعات مصغرة ويكون هدف هذه الاجتماعات وضع خريطة طريق، للحوار الوطني، وكان نائب رئيس الحوب الوطني الحاكم «ابراهيم غندور» قد صرح أن الرئيس البشير قد أكد خلال اجتماعه مع آلية الحوار، بأن مناخ الحريات الذي أطلقه أخلاقي وسياسي لا رجعة فيه، وأوضح «غندور» أن الباب مفتوح أمام جميع فصائل المعارضة للددخول في هذا الحوار، ويشمل ذلك حملة السلاح الذين يقاتلون الحكومة في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق.
وقال «غندور» إن جميع أفراد الشعب من شباب وطلاب ونساء مدعوون للمشاركة في هذا الحوار الوطني من أجل أن يحددوا الأهداف الوطنية بأنفسهم ويتفقوا عليها، وتتركز هذه الأهداف من وجهة نظره في السلام والتنمية والهوية والعلاقات الخارجية واطلاق الحريات العامة .
وجاءت المواقف الوطنية متباينة من هذه الدعوة، إذ قال رئيس حزب الاصلاح الوطني «غازي صلاح» الدين إن هذه الدعوة تمر الآن بمأزق، وعلى الرغم من أنه قال إن الحوار الوطني وصل إلى طريق مسدود فهو لم يوضح لوكالة «فرانس برس» الأسباب التي تجعله يقف في طريق مسدود مع أن الحوار مازال في مراحله الأولى.
لكن جوانب أخرى من المعارضة لها أهداف محددة من استمرار الحوار وإنجاحه، ومنها إطلاق سراح المعتقلين واطلاق الحريات بصفة عامة، وقال بعض المحللين إن مواقف المعارضة تستند في جميع الأحوال على شكوكها في نوايا الحكومة من دعوتها للحوار. وكان اعتقال الصادق المهدي سببا مهما في مواقف المعارضة الأخيرة التي ترى أن لا جدوى من الحوار ما دامت الحكومة تقوم باعنقال الزعماء الوطنيين الذين هم عماد التوصل إلى اتفاق من خلال عملية الحوار الوطني.
وتلقى معظم دعوات المعارضة في هذه المرحلة استجابة من الحكومة خاصة أنها مقبلة على انتخابات عامة في العام المقبل، وتريد من الجميع المشاركة فيها بشكل يتوافق مع متطلبات الجميع في السودان.
ومهما يكن من أمر، فإن دعوة الحوار التي أطلقتها الحكومة هي ذات أهمية كبيرة في ظروف السودان الحالية، وسواء كانت هذه الدعوة تتم من خلال آلية خالصة أو من خلال مشاركة دولية فإن المهم هو عدم رفض مبدأ الحوار لأن التغيير المنتظر لن يتم من خلال المواقف المتشددة من خارج الحكم، بل يتم من خلال التفاهم والتوصل إلى الحلول المطلوبة بالمشاركة في صنعها.
ولكن في جميع الأحوال يجب التنبه إلى أن السودان بلد مترامي الأطراف وهو يحتاج إلى رؤية صحيحة لحكمه، ذلك أن الهدف ليس هو الحكم فقط بل الهدف هو إيجاد النظام المناسب لتسيير الأمور في هذا البلد، وهنا يجب أن يستفيد الجميع من تجربة انفصال جنوب السودان التي لم تكن فقط بسبب خلافات سياسية أو مصالح مختلفة بل كانت أيضا بسبب غياب الرؤية في بلد ذي مساحة شاسعة .
وإذا نظرنا إلى الأوضاع في السودان خلال الحكم الانكليزي وجدنا أن الاستقرار الذي تميز به خلال تلك المرحلة لم يكن بسبب القبضة المركزية القوية، بل كان بسبب النظام الفدرالي الذي أسسه الإنكليز في تلك المرحلة، ذلك أن تقسيم السودان إلى عدد من المديريات وإعطاء كل مديرية الصلاحيات في إدارة شؤونها هو الذي أوجد حالة من الرضى عمت البلاد بأسرها.
وإذا نظرنا اليوم إلى الحركات المسلحة في أقاليم «دارفور» و»جبال النوبة» و»النيل الأزرق» وتساءلنا لماذا توجد مثل هذه الحركات؟. كانت الإجابة لأن سكان الأقاليم يعتقدون أنهم يخضعون إلى قيادة مركزية قوية تؤثر على حياتهم، وبالتالي فإن تحركاتهم موجهة نحو الحكم المركزي، ولكن إذا تمكن هؤلاء من الوصول إلى الخرطوم وتغيير الحكم المركزي فهل سيغير ذلك شيئا من واقع أقاليمهم ؟ الإجابة بكل تأكيد لا، لأن تغيير الواقع يجب أن يكون من داخل الإقليم، ولا يتحقق ذلك إلا إذا قبلت البلاد مبدأ الحكم الفدرالي الذي لا يلغي الوحدة أو يؤثر عليها بل يقويها من خلال توزيع الاختصاصات.

د. يوسف نور عوض

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية