الحقيقة الفظة عن طبيعة النظام المصري«طيب أحنا يا دكتور مصطفى لازم ناخد هبرة نحطها في الصندوق»

(أحد تجليات السيد عبد الفتاح السيسي)

«الحقيقة، الحقيقة القاسية» تُعزى هذه المقولة التي اقتبسها ستندال في روايته الخالدة (والأشهر ربما) «الأحمر والأسود» لجورج دانتون، أحد الشخصيات البارزة في الثورة الفرنسية الكبرى، وقد تُترجم للحقيقة الخشنة أو الفظة؛ أياً كانت الترجمة فإنها تحيل إلى ما لا يسر من معانٍ تتفق في ما هو قاسٍ وجارح، إلا أن دانتون (بغض النظر عن الخلاف على تقييم شخصه) كان هنا يؤكد ضرورة، بل حتمية، مواجهة هذا الواقع على قسوته، مهما كان الثمن أو العواقب، الأمر الذي جسده شخصياً حين جعل ينتقد الإرهاب إلى أن أطاحت المقصلة برأسه، ثم لم تلبث أن طيرت رؤوس جلاديه وعلى رأسهم روبسبير.
المهم في هذا الصدد هو التأكيد على كون الحقيقة، أو الواقع لا مفر منهما، مهما أشاح الفرد (أو المجتمع) بوجهه فليس من مفر، ولا بد للواقع باستحقاقاته وتبعاته من أن يجبرك على التعامل معه، والشاهد من عِبر التاريخ، أن كل تأخيرٍ في هذا الاعتراف لا ينتج عنه سوى استفحال القبح وزيادة التكلفة المدفوعة. لقد كان رأيي دائماً منذ ثورة يناير، أنه ربما كان أحد أهم المتغيرات في ساحة الحياة العامة في مصر، أننا لم نعد نملك، كشعب، رفاهية إشاحة الوجه عن قبح الواقع، والتمادي في استهلاك الأوهام ونسج المزيد منها. ربما كان ذلك ممكنا في عهد مبارك، الذي كانت سمته الأساسية البطء والركود، ما أدى إلى نوعٍ من التآكل البطيء، الذي لا تكتشف مداه إلا بعد مضي الوقت حين تنظر وراءك (أو حولك) وتعيد حساباتك، أما الآن، فإن معدل الانهيار على الأصعدة المختلفة، وعلى رأسها الاقتصاد، حيث انهارت قيمة العملة آخذةً معها مستوى معيشة السواد الأعظم ومخلفةً الفقر وجمهوراً جائعاً مأزوماً، الآن، لم يعد بالإمكان عدم مواجهة الواقع.

لم نعد نملك رفاهية عدم مواجهة الواقع القاسي القبيح، ولا السيسي يتيح لنا الفرصة، فقد بات واضحاً أنه لا مانع لديه من بيع أي شيء، أو سحق أي شيء في سبيل البقاء

عقب الانقلاب، دغدغ السيسي مشاعر الناس الوطنية، خاصةً إحساسهم العميق بالهزيمة والغضب والجزع لما تكشف من حجم الفساد المستشري في الدولة ونظام مبارك، وتجرؤ عصابات الإرهاب المسلحة اليمينية على النظام، خاصة في سيناء؛ لقد أراد الناس تصديق تلك الوعود بالوفرة، لاسيما تلك التي تعد باستعادة عظمةٍ متخيلة. ما لم يدركوه حينها هو مدى تدهور النظام بالمعنى الأشمل الأعم، ومنها أو بالأخص، تصورات أركانه عن أنفسهم وطبيعة السلطة وأحكامها ومقتضياتها، ناهيك عن أي تصوراتٍ أسمى عن أهداف أو طبيعة العالم ودور البلد فيه. كل ما تبقى كان انحيازاً متوارثاً غبياً ورغبةً مستميتة في البقاء، بأي ثمن كما لم يلبث أن تتكشف، إذ اتضح أن المسؤولية الوحيدة التي يحسبونها، أو يضعون لها أي اعتبار هي مسؤولية النظام أمام نفسه في البقاء، البقاء المحض والإبقاء على المكتسبات الاجتماعية لفئاتٍ وطبقاتٍ بعينها فقط؛ أما الجمهور الأوسع، أو الناس، أو الدهماء، فليسوا إلا كتلةً ضخمة، خرقاء تماماً وبليدة، لا بد من توجيهها وقيادتها وانصياعها التام. لكن الحقيقة الخشنة والفظة، القاسية التي تكشفت أمام الناس، على الرغم من رغبة الكثير عدم رؤيتها ومواجهتها، هي أن النظام، إذ تخلص من مبارك في سبيل الهدف الأسمى، البقاء، لم يستعن إلا بالجيل الأصغر، الثمرة والحصاد، لعقود القمع والتجهيل. إن السيسي هو التجسيد الحي والمكثف لطبيعة وتناقضات ومآل نظام يوليو، فهو ببلادته وانعدام أفقه، وضيق مداركه، وشح ثقافته وقسوته، متجردٌ متخففٌ من كثيرٍ من الاعتبارات، التي كانت لم تزل تحكم أو تحجم نوعاً ما مبارك ومن حوله، متخلفةً من العقود الأسبق، التي كانت نتاج فترةٍ طويلة من تطور المجتمع المصري وبحثه، وأخذه بمسارات الحداثة، بالإضافة إلى وعيٍ أرقى نسبياً أيضاً لدى رجال مبارك (الذين تشكل وعي وتعليم جلهم في فترة التطور، تلك الأثرى على كل الأصعدة) بكيف تكون ممارسة السياسية، حتى حين تكون السلطة مطلقة ومستبدة، بحيث لا يفلت منها زمام الأمور. فلئن تميزت ممارسة ضباط يوليو بالجلافة والرعونة، فقد وُظفت إلى حدٍ بعيد في بناء النظام لخدمة مشروعٍ وطني، على الأقل في المرحلة المبكرة، التي لم يلبث السادات أن انقلب عليها؛ أما الآن فليس هناك، فعلياً أي طموحات أو أهداف من هذا القبيل، بل لعل السيسي ورجاله يسخرون من تلك المثل في دوائرهم المغلقة، وإن استغلوها ليل نهار لتسويق أكاذيبهم، إلا أن الثابت والأكيد أن القسوة والجلافة توظف حصراً للبقاء والإثراء.
لعل السيسي هو خط الدفاع الأخير والمحاولة اليائسة الأخيرة للحفاظ على دولة القمع والمكتسبات دون حساب، ومن ثم نفهم تلك الدموية المتوحشة، فالرجل، عدا أوهامه عن ذاته المتفردة وعلاقتها بالذات العلية، ليست لديه أي أوهامٍ أخرى، بل هو مندفعٌ في تأمين بقاء النظام ومكاسب الطبقة الحاكمة، ذلك الهدف الوحيد والأسمى، وعلى أقل تقدير تأمين نفسه، ناهيك بالطبع عن إشباع مركبات النقص الهاجعة زمناً طويلاً والنهمة إلى حدٍ لن يعرف شبعاً. المهم في سياقنا أن السيسي، كما كتبت كثيراً، لم يُخفِ أهدافه، وإن حاول فهو لم يفعل ذلك جيداً، بل لقد دأب على التصريح بها وبأسلوبه «القوة الغاشمة»، وقد صارحنا أيضاً بأن الأموال تنفق، أو بالأحرى تهدر، ببذخٍ وسخفٍ دون دراسات الجدوى، ولا نحتاج إلى أن نخمن النسبة التي تستقر في جيوب الأفراد من أولي الحظوة، كما أنه لم يألُ جهداً في إتحافنا بغث الحديث وسوقي الكلام، ولعل آخر ذلك كان في إطار بهجته بأول الغيث من الأموال التي ستفد من الإمارات العربية في صفقة رأس الحكمة، حيث أراد نصيبه، أو «هبرته» من هذا المبلغ. بالفعل، ليس هناك الكثير ليُخفى الآن، أو على الأقل لا يمكن استنتاجه من التصريحات ومجريات الأحداث، وعلى ضوء الصفقات المعلنة، نستطيع أن نستنتج تلك المقبلة والأخطر التي تدور خلف الأبواب، من ترتيبات إقليمية تفرط في الحق العربي.
لم نعد نملك رفاهية عدم مواجهة الواقع القاسي القبيح، ولا السيسي يتيح لنا الفرصة، فقد بات واضحاً أنه لا مانع لديه من بيع أي شيء، أو سحق أي شيء في سبيل البقاء، وبذا يتضح أن نظام يوليو الذي بدأ بطغمةٍ من الضباط، ذوي فكرٍ غير ناضج وسلطوي، إلا أنه كانت لديهم مشاعر وطنية صادقة في أغلبها وآمال لمستقبلٍ أفضل، ذلك النظام قد ترهل وتعفن ونض عنه فائض المشاعر والأحلام والالتزامات حتى يصل إلى ما هو عليه الآن: تشكيلٌ عصابي.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية