الحزن الأزرق في لوحات بيكاسو

خلال ثلاث سنوات فقط، امتدت من سنة 1901 حتى سنة 1904، رسم بيكاسو مجموعة من اللوحات، شكلت في ما بعد مرحلة فنية كاملة تعرف باسم المرحلة الزرقاء. وكما يبدو من الاسم الذي أطلق عليها أنها ترتبط باللون الأزرق، حيث اعتمد عليه بيكاسو بشكل كبير، سواء في اللوحات أحادية اللون الغالبة على تلك المرحلة، أو في اللوحات الزرقاء التي شهدت تداخلات مع بعض الألوان الأخرى. للمرحلة الزرقاء عند بيكاسو أهميتها الكبرى في تاريخ الفنان الإسباني، الذي قد يكون الرسام الأشهر في العالم، وهي المرحلة التي سبقت كلا من المرحلتين الوردية والتكعيبية. بدأها بيكاسو في بداية العشرينيات من عمره، عندما ترك إسبانيا وارتحل إلى باريس رفقة صديقه الرسام الشاب كارلوس كاساجيماس، الذي مثلت حادثة انتحاره، الدافع النفسي الرئيسي والسبب الذي أدخل بيكاسو في حالة من الحزن العميق، انعكست ملامحه على إبداعه في تلك الفترة، بالإضافة إلى ما كان يمر به من ظروف مادية عصيبة في باريس، فلوحاته الخالدة لم تكن تباع بسهولة، ولم يكن يلاقي الاعتراف الفني الذي يستحقه، واختبر الفقر والحرمان، وكان بالكاد يجد قوت يومه. انتحر صديق بيكاسو كارلوس كاساجيماس بإطلاق الرصاص على رأسه، بسبب حبه لفتاة رفضته، وقد أطلق الرصاص عليها أيضاً وحاول قتلها لكنها نجت. وعلى الرغم من أن أسباب الحادثة عاطفية بحتة، إلا أن بيكاسو يعالج في لوحات المرحلة الزرقاء، مواضيع البؤس، والفقر، والحرمان، والعزلة، والانفراد، والتشرد، ولم يعبر عن مواضيع الحب والغرام، سوى في لوحة واحدة فقط، هي لوحة «الحياة» التي رسم فيها صديقه المنتحر مع فتاته في عالم آخر. كما رسمه أيضاً في لوحة أخرى، داخل تابوته وفي رأسه آثار الطلقة القاتلة التي ذهبت بحياته، وقد وظف اللون الأزرق في تلك اللوحة للتعبير عن برودة الموت.
في جو من الكآبة والعسر والفاقة، كان بيكاسو يتشبث بفرشاته، على الرغم من كل شيء، أملاً في الخروج من تلك الحالة، والمضي نحو المستقبل، وأخذ يرسم اللوحة تلو الأخرى، معبراً عن حزنه العظيم، الذي لم يجد له مترجماً أفضل من اللون الأزرق. واللافت أن مجموعة المرحلة الزرقاء، تعد من أجمل أعماله الفنية المفضلة لدى الكثيرين، تنم تقنياتها عن احترافية شديدة، كأنها تنتمي إلى بيكاسو الفنان الكبير، لا بيكاسو الشاب الذي كان لا يزال في بداية الطريق. المثير في تلك اللوحات ليس اللون الأزرق فقط، وقدراته التعبيرية اللانهائية التي أظهرها بيكاسو، وإنما الدراما الكامنة في تلك اللوحات أيضاً، حيث يشعر الناظر إليها، بأن وراء كل لوحة حكاية أو قصة قصيرة، بل ربما رواية كاملة.
رأى بيكاسو حزنه في أحزان الآخرين، وأشفق على نفسه كما أشفق عليهم، وربما كان يخشى ذلك المصير، وهو يرسم المشردين على الأرصفة، والفنانين منهم على وجه الخصوص. لم يكتف بيكاسو بالتعبير عن حزنه الخاص، من خلال هؤلاء الأشخاص الذين رسمهم في لوحاته، وعبر عن حزنه بشكل مباشر من خلال بورتريه ذاتي يعد من أهم قطع المرحلة الزرقاء، حيث رسم الفنان نفسه تحت تأثير اللون الأزرق، وبدا في اللوحة رجلاً غيّر الحزن الثقيل ملامحه ومنحه أعواماً فوق سنوات عمره القليلة.

كان بيكاسو يستخدم اللون الأزرق بتدرجاته القاتمة والداكنة وكذلك الباهتة، التي تشيع الكآبة في أرجاء اللوحة، ولم يخذله هذا اللون في التعبير عن مشاعر كل بطل من أبطال لوحاته، رجلاً كان أم امرأة، كبيراً أم صغيراً، وتجسيد الحالة المأساوية التي يكابدها المعوزون والمنبوذون على هامش المجتمع. لكن بالطبع لم يكن اللون وسيلة التعبير الوحيدة لديه، فهناك الكثير من الفنيات الأخرى، كالخطوط والتكوينات والتقسيمات الهندسية للوحة، وأشكال الأجساد وأوضاعها وملامح الوجوه، ونظرات الأعين التي تعكس ما يمر به الشخص المرسوم من آلام وأحزان. وبعض العناصر الأخرى التي تحيط بالشخصيات، أو الأدوات التي تمسك بها أحياناً.
أجساد البائسين وملامحهم
يلاحظ على الأجساد في بعض لوحات المرحلة الزرقاء، وضعيات الانحناء والانكماش، والانغلاق على الذات، كما في لوحة «المأساة» التي يقف فيها رجل وامرأة وطفل، حفاة على شاطئ البحر، تنحني الرؤوس والأكتاف نحو الأسفل، الرجل معقود الذراعين والمرأة كذلك على ما يبدو، وإن كان ظهرها هو المواجه للرائي، أما الطفل فيسند يداً على ساق الرجل، التماساً للأمان أو للدفء. توحي اللوحة بأن الجميع يعانون من البرد وسط هذا الفراغ، وأنهم لا يرتدون ما يكفي من الثياب، يبدو الرجل مكدوداً منهزماً، ويطغى الشيب على شعره ولحيته، وتبدو المرأة حزينة وبائسة للغاية، وكذلك وجه الطفل تغلب عليه ملامح الخوف والأسى. في بعض اللوحات الأخرى يكون الانحناء شديداً، بحيث تبدو الرأس والرقبة كما لو أنهما يرسمان خطاً أفقياً، كما في لوحة «عازف الغيتار المسن» ولوحة «الحساء» وقد يتخذ الانحناء شكلاً دائرياً أو نصف دائري، كما في لوحة «الأم والطفل» ولوحة «المخمورة النائمة». وتتكرر وضعية الذراعين المعقودتين أيضاً، كما في لوحة «امرأة حزينة» ولوحة «امرأة مكتوفة». من الأمور اللافتة في اللوحات أيضاً، الشكل الذي صور به بيكاسو الأصابع، سواء أصابع اليدين أو أصابع القدمين، فهي نحيلة وطويلة أكثر من المعتاد، تكون بارزة العظام أحياناً، فتبدو كالهيكل العظمي أكثر من الجسد الحي. وهذا نراه في لوحات «المتسول والطفل» و»عازف الغيتار المسن» على سبيل المثال.
يميل بيكاسو إلى جعل العيون ضعيفة بشكل ملحوظ، إما من خلال النظرة البائسة المنكسرة، أو من خلال عطب في إحدى العينين، كما في لوحة «سيلستينا» التي نرى فيها امرأة بعين واحدة. بل إن العمى الكامل يسيطر على بعض اللوحات، فعازف الغيتار الشهير، الذي يجلس على الأرض بثياب ممزقة، منكمشاً على غيتاره، الذي يبدو مصدر رزقه الوحيد أو أمله الأخير في النجاة، هذا الرجل جعله بيكاسو ضريراً أيضاً. وكذلك المتسول في لوحة «المتسول والطفل» يبدو ضريراً، وتم تناول العمى بشكل أعمق في لوحة «وجبة الرجل الضرير» التي نرى فيها ذلك الرجل الأعمى الذي يجلس وحيداً، ممسكاً بكسرة خبز.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية