الحرب الأوكرانية تترك بصماتها السلبية على الاقتصاد العالمي

حجم الخط
0

كانت الحرب الأوكرانية التي بدأت في الأسبوع الأخير من الشهر الثاني في العام الحالي، هي الحدث المركزي الذي دارت حوله أحداث العام جيوسياسا واقتصاديا؛ وبشكل خاص في أسواق الطاقة والغذاء، ومجالات السياسات النقدية والمالية والتجارية، والعلاقات الدولية، وهو ما جعلها الحديث الأول سواء على موائد الطعام، وحوارات المقاهي، وخلف أبواب الغرف المغلقة التي يشغلها صناع القرارات. كما أفرزت الحرب الأوكرانية خلافات سياسية وغضبا اجتماعيا واقتصاديا أدى لتهديد الاستقرار في الدول الصناعية المتقدمة، حيث تغيرت حكومات لعجزها عن مواجهة التداعيات الاقتصادية للحرب على تكلفة المعيشة، كما حدث في بريطانيا، وارتفعت أسعار الفائدة لمكافحة التضخم، واشتعلت حرب الطاقة بين المنتجين والمستهلكين بسبب العقوبات المفروضة على روسيا. ومع ارتفاع أسعار الفائدة تباطأت معدلات النمو في الدول الصناعية، حتى وصلت إلى حد الانكماش في دول مثل بريطانيا وألمانيا واليابان. كما فقدت أوكرانيا ما يقرب من ثلث إنتاجها المحلي، وتعرضت روسيا لتجميد ما يقرب من 300 مليار دولار من أرصدتها المالية في الخارج بسبب العقوبات، ومن المتوقع أن ينكمش اقتصادها بنسبة 3.6 في المئة في العام الحالي، وبنسبة 3 في المئة في العام المقبل. ومع استمرار الحرب فإنه من المتوقع أن تستمر تداعياتها الاقتصادية.

سباق تكنولوجي وحروب اقتصادية

ومع ذلك فإن العام 2022 سجل عددا من الإختراقات التكنولوجية المهمة، التي من شأنها أن تترك آثارا واسعة النطاق على الحياة البشرية، خصوصا في مجالات الطاقة الجديدة والذكاء الاصطناعي، والهندسة الجينية البشرية، والفضاء. ففي اليوم الأول من العام 2022 كشفت الصين الغطاء عن نجاح علمائها في إنتاج الطاقة بطريقة الإلتحام النووي معمليا، في إطار مشروع «الشمس الصناعية» حيث تم إنتاج طاقة حرارية قوتها 70 مليون درجة مئوية، أي ما يزيد عن درجة حرارة الشمس بمقدار خمسة أضعاف. وقد استمرت التجربة لمدة 17 دقيقة و 36 ثانية. وقبل نهاية العام أعلن العلماء في مشروع أمريكي – بريطاني مشترك نجاحهم في إنتاج الطاقة معمليا بطريقة الالتحام النووي أيضا. نجاح التجارب في كل من الصين والولايات المتحدة يفتح آفاقا واسعة لتوليد كميات لا نهائية من الطاقة النظيفة لخدمة احتياجات النمو في العالم.
ولم تتوقف جهود تطوير صناعات الطاقة الجديدة عند حد التجارب المعملية لإنتاج الطاقة النووية النظيفة، وإنما امتدت إلى تطوير تكنولوجيا إنتاج الهيدروجين الأخضر، الذي يمكن استخدامه كبديل آمن ونظيف للوقود الإحفوري الملوث للبيئة مثل الفحم والنفط والغاز المستخدم في تشغيل محطات الكهرباء والمصانع ووسائل النقل. وقد ابتكر العلماء في الصين تكنولوجيا جديدة لفصل الأوكسجين عن الهيدروجين في المياه المالحة، أي من البحار والمحيطات وخزانات المياه الجوفية عالية الملوحة، بدون الحاجة إلى تحلية المياه أولا. وفي حال تعميم هذه التكنولوجيا على نطاق تجاري فإن واحدة من أصعب مشكلات استخلاص الهيدروجين سيتم حلها، وهو ما لا يعني فقط تخفيض تكلفة إنتاج الهيدروجين الأخضر، ولكنه يتيح أيضا موارد وفيرة لا نهائية تقريبا لإنتاج الهيدروجين الأخضر على نطاق واسع بأسعار رخيصة. وقد شهد عام 2022 زيادة كبيرة في الاهتمام بتطوير إنتاج الهيدروجين الأخضر على مستوى العالم ككل، بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط التي تمثل أحد أهم مصادر إمداد العالم بالوقود الإحفوري.
لكن مسار التطور التكنولوجي في العالم يتعرض لاختناقات كثيرة بسبب الاضطرابات في عمل سلاسل الإمدادات لأسباب اقتصادية، زاد من حدتها لجوء الولايات المتحدة لاستخدام الحروب الاقتصادية والتكنولوجية وسيلة لتصفية حساباتها مع خصومها، ولتعزيز قوة شركاتها وزيادة قدرتها على المنافسة. ومن الأمثلة على ذلك قانون «تحفيز شركات أشباه الموصلات» الذي أصدره الرئيس الأمريكي جو بايدن بعد أن وافق عليه الكونغرس. ويهدف هذا القانون أساسا إلى حرمان الشركات الصينية من الدخول إلى الأسواق الخارجية، بائعا أو مشتريا، وتقديم الحكومة الأمريكية حزمة حوافز ضريبية وإعانات دعم لشركاتها بقيمة 50 مليار دولار تقريبا. وقد أبدت دول الاتحاد الأوروبي اعتراضها على القانون، الذي يحرم شركاتها من المنافسة العادلة في أسواق الولايات المتحدة والعالم. كذلك فإن منظمة التجارة العالمية أبدت تحفظات كثيرة على إجراءات الحماية الأمريكية والحرب الاقتصادية ضد الصين، وأصدرت قبل نهاية العام الحالي حكما يقضي بتعارض الإجراءات الحمائية الأمريكية مع قواعد حرية التجارة التي تتبناها المنظمة.

آثار سلبية لسياسة التشدد النقدي

وطبقا للعقيدة الاقتصادية الرسمية في الدول الرأسمالية، فإن المهمة الأساسية للبنوك المركزية تتمثل في مكافحة التضخم، والمحافظة على الأرباح الرأسمالية من التآكل، لأن ذلك من شأنه تقليل فرص الاستثمار، ومن ثم وقوع الاقتصاد في مستنقع الركود. وفي هذا السياق فإن مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي قرر على مدار العام الحالي رفع سعر الفائدة على الدولار من صفر تقريبا حتى وصلت إلى 4.5 في المئة قبل نهاية العام. كما ارتفع سعر الفائدة على الجنيه الاسترليني إلى 3.5 في المئة، وعلى اليورو إلى 2 في المئة. وأدى ارتفاع أسعار الفائدة على العملات الرئيسية إلى التأثير سلبا على فرص النمو كما هو الحال في بريطانيا وألمانيا، كما أدى أيضا إلى ارتفاع تكلفة تمويل التجارة والاستثمار والاقتراض الخارجي للدول النامية.
وتظهر الإحصائيات في بريطانيا أنه على الرغم من القيود على زيادات الأجور في القطاعات المختلفة حتى بلغت 6 في المئة فقط، فإن معدل التضخم واصل الارتفاع إلى 11 في المئة، ثم بدأ في التراجع إلى ما دون ذلك في الأسابيع الأخيرة من العام. وبتحليل أرقام التضخم فإن الارتفاع في أسعار الطاقة والغذاء والسيارات كانت من أهم محركات زيادة التضخم وليس الأجور. كما أظهرت دراسة لواحد من اتحادات النقابات المستقلة «يونايت» أشارت إليها صحيفة «الغارديان» أن هامش أرباح أكبر 350 شركة في بريطانيا زاد في عام 2021 بنسبة 73 في المئة عما كان عليه عام 2019. وباستبعاد شركات الطاقة التي حققت مكاسب ضخمة، فإن هامش الأرباح خلال تلك الفترة يظل أعلى بنسبة 52 في المئة، وقد تم تحويل نسبة كبيرة من الأرباح التي حققتها الشركات إلى جيوب الشركاء والمساهمين والمديرين، ولم تسهم في تخفيف أعباء الأسعار على المستهلكين.
وفي انتقاد سياسة مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يرى الاقتصادي الأمريكي جوزيف ستيغليتز، الحائز على جائزة نوبل، أن هذه السياسة التي اقتفت أثرها معظم البنوك المركزية في العالم أدت في واقع الأمر إلى تمهيد الطريق للركود والانكماش أو زيادة حدة كل منهما، وأنها ستترك جروحا غائرة في جسد الاقتصاد العالمي كان يمكن تجنبها. وأوضح ستيغليتز في الدراسة التي شارك في إعدادها لمعهد «روزفلت» أن تأثير رفع أسعار الفائدة في تخفيض التضخم محدود جدا. وللتدليل على ذلك قال إن السبب الرئيسي وراء ارتفاع أسعار السيارات يتمثل في نقص الشرائح الالكترونية، وليس زيادة الطلب.
وضرب ستيغليتز مثالا آخر لارتفاع الأسعار الذي يغذي التضخم، وهو ميل الشركات لاستغلال نقص الإمدادات في تبرير زيادة هامش الربح الذي تحصل عليه، خصوصا مع سيطرة شركات كبرى عالمية على السوق، أو في سوق شبه احتكاري مثل الولايات المتحدة. وقال إن رفع أسعار الفائدة في هذه الحالة من شأنه أن يوقع مزيدا من الألم بالفئات الاجتماعية الضعيفة، وتوسيع نطاق انعدام العدالة، بدون أن يحد من ارتفاع الأسعار. وبعد كل ذلك وجه ستيغليتز ضربته إلى سياسة رفع أسعار الفائدة، متسائلا: هل سيؤدي رفع أسعار الفائدة إلى توفير الرقائق الإلكترونية لصناعة السيارات؟ وهل سيؤدي لتخفيض أسعار الطاقة للمصانع؟ وهل سيؤدي لتخفيض أسعار الغذاء؟

انهيار العملات المشفرة

وخلال العام 2022 سقطت قيمة سوق العملات المشفرة من 3 تريليونات دولار إلى 850 مليار دولار، أي خسرت ما يتراوح بين ثلثي إلى ثلاثة أرباع قيمتها، حيث هبطت قيمة البيتكوين، وهي العملة المشفرة الأكثر تداولا، من 68 ألف دولار إلى 17.7 ألف دولار، في حين أن عملات أخرى هبطت قيمتها إلى ما يعادل دولار أمريكي واحد. وهبطت قيمة أصول منصة تداول العملات المشفرة «إف تي إكس» من 32 مليار دولار إلى الإفلاس في أسبوع واحد فقط. هذا التدهور السريع في قيمة العملات المشفرة يطرح أسئلة كثيرة حول دور السلطات النقدية في حماية المستهلكين، وفي إبتكار السبل الكفيلة بتنظيم سوق العملات المشفرة، ودور البنوك المركزية في تداولها. وعلى الرغم من أن العملات المشفرة ما تزال غير قانونية ومحظور استخدامها في أغلبية دول العالم، فإن الإقبال على استخدامها وتقنين تداولها في بعض الدول يلقي على عاتق السلطات النقدية في العالم مسؤولية وضع تشريعات متناسقة أو منسجمة للتعامل مع الظاهرة، وهو ما يضع على كاهل البنوك المركزية مسؤولية كبرى إضافية في العام 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية