الحرب الأوكرانية: «الجنرال شتاء» ينتصر للروس

كما جرت العادة في حروب روسيا التاريخية، يخدمها الجنرال شتاء، والشتاء هناك هو الأقسى برودة وثلوجا في الدنيا المعمورة كلها، ومع أن الأجواء في أوكرانيا مشابهة لجارتها اللدودة روسيا، يواصل الأحفاد الروس سيرة الأجداد، ويسيطرون على مساحات متزايدة في الدونباس، وفي وسط وغرب مقاطعة دونيتسك بالذات، أحيانا ببطء السلحفاة، وبقفزات الضفادع في أحيان أخرى، في الشتاء السابق، كانت القوات الروسية تستثمر الطقس البارد وهدوئه العسكري في حفر الخنادق، وفي نشر حقول الألغام، وفي إقامة خطوط دفاع حصينة من ثلاث طبقات، عرفت باسم خطوط سوروفيكين، في إشارة إلى صانعها وواضع خطتها الجنرال الشهير سيرجي سوروفيكين، وكان لها أثرها المباشر الحاسم في عرقلة ما سمي الهجوم الأوكراني المضاد الذي بدأ أوائل الصيف الفائت، ثم في إفشاله ومحوه تقريبا مع قدوم الخريف، لكن الأوضاع الحربية في الشتاء الحالي تبدو مختلفة، فقد انتقل الجيش الأوكراني إلى محاولة استنساخ الخطوط الدفاعية الروسية، بينما تحول الروس إلى هجوم مضاد مدروس، يبطئ الخطى أحيانا، ربما في محاولة انتزاع ما تبقى من الدونباس في يد أوكرانيا، وبأقل قدر من الخسائر البشرية الروسية.
وكل يوم يمر في هذا الشتاء القارس المشتعل بنيران حرب أوكرانيا، يضيف الروس إلى سيطرتهم أرضا جديدة، في سياق يبدو مدروسا بعناية، هدفه شبه المرئي على ما يبدو، أن تستكمل روسيا سيطرتها على ما تبقى من المقاطعات الأوكرانية الأربع (دونيتسك ولوغانسيك وخيرسون وزاباروجيا) التي أعلنت روسيا رسميا ضمها لأراضيها أواخر سبتمبر 2022، وصولا إلى تكريس خط حدود جديدة عند نهر دنيبرو، وبما يشمل كل منطقة الدونباس في مقاطعتي دونيتسك ولوغانسيك، إضافة لأغلبية أراضي مقاطعتي زاباروجيا وخيرسون على حافة النهر الفاصل بين الشرق والغرب الأوكراني، وتأمين مقاطعات الحدود الروسية الأصلية في بيلغورود وغيرها، بإنشاء منطقة عازلة في خاركيف وسومي الأوكرانيتين حتى تاريخه، وفي غرب مقاطعة دونيتسك، وفيه عشرات ـ ربما مئات ـ من البلدات والمدن والقرى الصغيرة المتناثرة، تتقدم قوات الزحف الروسي الشتائي، وتحقق انتصارات متراكمة بنفس هادئ، ربما كان أهمها السيطرة على مدينة ماريينكا، قبل ما يزيد على الشهر، ثم الإحاطة والتقدم إلى عمق مدينة أفدييفكا شديدة التحصين، على نحو ما كان في مدينة باخموت قبل أكثر من عام.

فقدت واشنطن حماسها السابق لهزيمة وتفكيك روسيا، وتبتلع مرارة ما جرى من هوان لسمعتها وسلاحها، وتتعثر مداولات مجلسي الكونغرس لتقديم دعم جديد لأوكرانيا، بقيمة 62 مليار دولار

وظاهرة التحصين بالأنفاق الواسعة وغيرها، موروثة عن العهد (السوفييتي) الروسي، الذي كان حاكما لأوكرانيا قبل استقلالها وانفصالها عن روسيا أوائل تسعينيات القرن العشرين، وخلق حياة كاملة تحت الأرض في المناطق الصناعية، يجري اللجوء إليها في حالات الطوارئ، على نحو ما كان في مدن ماريوبول وسوليدار وباخموت، التي كانت المعارك فيها مفارم لحوم بشرية، وهو ما سعى الروس إلى تحاشيه هذه المرة، في معارك ماريينكا، التي جرى حسمها، وفي معارك أفدييفكا، التي تشارف الحسم اليوم، إضافة لزحف القوات الروسية غرب باخموت شمالا وجنوبا، والتقدم في محاور مختلفة على نحو متواز، يعتمد على الإحاطة والتضييق والحصار، ثم الاختراق والسيطرة، على طريقة ما جرى ويجري في مناطق وبلدات نوفاميخالوفكا وإيفانوفسكي، عدا التقدم إلى تشاسوفيار وكونستانيفكا، تسهيلا للزحف إلى مدينة سيفرسك، والسيطرة التدريجية وقضم مناطق الغابات والبحيرات، وخطوط الإمداد الأوكرانية عبر شبكة الطرق والسكك الحديدية، وبهدف الاستيلاء في النهاية على كراماتورسك وسلافيانسك، أهم مدن الدونباس الصناعي المتبقية بيد الأوكران، ولا يبدو الهدف بعيد التحقق، مع تضاعف عديد القوات الروسية وقوة نيرانها، وتراجع مخزونات الذخيرة والقذائف الأوكرانية، على الجبهات الممتدة لأكثر من ألف كيلومتر، فلدى القوات الروسية في أوكرانيا اليوم، تفوق عددي لأول مرة منذ بدء الحرب أواخر فبراير 2022، ولديها قذائف أكثر بعشرة أمثال المتاح للقوات الأوكرانية، إضافة للتطور الهائل في صناعة الطائرات المسيرة الروسية، وفي أنظمة التشويش الإلكتروني والدفاع الجوي، التي تفشل معظم الهجمات الأوكرانية الانتقامية في البحر الأسود وشبه جزيرة القرم، التي سيطرت عليها روسيا قبل نحو عشر سنوات، ناهيك عن تواتر وكثافة الهجمات الروسية المتصاعدة جوا بالمسيرات والصواريخ على كييف وميكولاييف وأوديسا وخاركيف، ومدن الغرب الأوكراني وصولا إلى خميلينتسكي ولفيف، وبهدف التدمير المنهجي المنتظم للمطارات والمصانع الحربية ومخازن السلاح المقبل من دول الغرب وحلف شمال الأطلنطي الناتو.
وقد استجدت ظروف عالمية، أضافت لخدمات الجنرال شتاء للروس، أولها بالطبع ما يجري في منطقتنا، مع تواصل فظاعات حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على غزة، وانشغال واشنطن بما يجري في الشرق الأوسط، وأولويات البيت الأبيض في دعم إسرائيل، بل المشاركة الفعلية معها في خدمة المجهود الحربي تخطيطا وتنفيذا، وإخفاق العدو الأمريكي الإسرائيلي في تحقيق أهداف الحرب المعلنة ضد حماس وأخواتها، وفشل واشنطن حتى اليوم في منع اتساع رقعة الصدام الحربي في المنطقة، وتوقي خطر مشاركة حزب الله المتوسعة في الحرب على إسرائيل، بل تورط القوات الأمريكية نفسها في توسيع الحرب، بدعوى مواجهة الجماعات العسكرية الموالية لإيران، على نحو ما جرى ويجري في القصف الأمريكي البريطاني المشترك لمواقع الحوثيين في اليمن، وانفراد أمريكا بقصف مواقع جماعات المقاومة الإسلامية في العراق وسوريا، بعد مقتل وإصابة عشرات الأمريكيين العسكريين في قاعدة البرج 22، وكلها تحركات عسكرية أمريكية مشتتة وضائعة الأهداف غالبا، وهو ما يفيد الصين وروسيا في حروب تغيير الموازين على القمة الدولية، ويطلق يد روسيا أكثر في أوكرانيا وحربها، التي انسحبت إلى الظل الإعلامي، مع تركيز الضوء والاهتمام على ما جرى ويجري في غزة، إضافة لخلافات الأولويات الخارجية بين الديمقراطيين والجمهوريين في الساحة الداخلية الأمريكية، الطرفان متفقان طبعا على أولوية وقداسة الولاء لكيان الاحتلال الإسرائيلي، لكنهما مختلفان في أولويات التصرف مع روسيا والصين، فالجمهوريون يركزون على أولوية الصدام والحروب التجارية مع الصين، بينما يعطي الديمقراطيون الأولوية ذاتها للحرب مع روسيا، وحرب أوكرانيا ـ كما هو معروف ـ ذات طابع عالمي، وحشدت واشنطن وإدارة الديمقراطي جو بايدن معها أكثر من خمسين دولة في الحرب على موسكو، وقدمت فيها مئات مليارات الدولارات، وكل الأسلحة الأكثر تطورا، وراهنت على نجاح ما سمي الهجوم الأوكراني المضاد، الذي فشل بالكامل، وعد فشله هزيمة منكرة للغرب الأمريكي والأوروبي كله، الذي انهد حيله، ولم يعد قادرا على مجاراة التضخم الروسي في صناعة السلاح، ولا على تزويد الجيش الأوكراني بما يحتاجه، خصوصا مع خسارته لمئات آلاف الجنود والنخب العسكرية، وتفاقم خلافات الرئيس الأوكراني زيلينسكي والقائد العام للقوات المسلحة الجنرال فاليري زالوجني، الذي يعدونه بطلا شعبيا في أوكرانيا، ويميل إلى إعادة صياغة أهداف وطريقة الحرب، والانتقال إلى معنى دفاعي بديلا عن المنحى الهجومي الخاسر، بينما فقدت واشنطن حماسها السابق لهزيمة وتفكيك روسيا، وتبتلع مرارة ما جرى من هوان لسمعتها وسلاحها، وتتعثر مداولات مجلسي الكونغرس لتقديم دعم جديد لأوكرانيا، بقيمة 62 مليار دولار، امتنع الجمهوريون المسيطرون على مجلس النواب عن الموافقة عليه، ووضعوا بايدن في حرج إضافي، قد يقوده إلى خسارة معركة الانتخابات الرئاسية في خريف العام الجاري، وربما إلى فوز دونالد ترامب الجمهوري بالرئاسة مجددا، وهو المعروف بكراهيته الشخصية للرئيس الأوكراني، وبإعجابه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبمناكفاته وتقريعه ونقص ثقته بشركاء الناتو الأوروبيين، وكلها اتجاهات قد تنتهى إلى فوز سياسي لموسكو بعد التقدم العسكري، وترك الأوروبيين لمصائرهم الغاطسة في المستنقع الأوكراني، وتدمير وحدة أوروبا الصورية سياسيا، مع تدمير أوكرانيا فعليا، رغم اتفاق الاتحاد الأوروبي أخيرا على تصعيد الدعم العسكري والاقتصادي لأوكرانيا، والإعلان عن حزمة دعم كبيرة لكييف بقيمة 50 مليار يورو على مدى أربع سنوات مقبلة، لن تؤدى غالبا، إلا إلى مزيد من إنهاك واستنزاف أوروبا، فالمبالغ المهولة المقررة ممنوحة بشروط رقابة، وأغلبها مخصص لدعم اقتصاد أوكرانيا وماليتها المتدهورة، بينها 33 مليار يورو في صورة قروض ميسرة واجبة الاسترداد، و17 مليار يورو في صورة منح لا ترد، وبيروقراطية الاتحاد الأوروبي، مع تفشي الفساد والسرقات الأوكرانية، ربما لا تجعل الدعم الأوروبي مؤثرا كثيرا في خط سير الحوادث الحربية، ولا في تغيير أقدار الحرب، التي قد تتوسع روسيا في ميادينها جنوبا إلى ميكولاييف وأوديسا، وتغلق ما تبقى من شواطئ أوكرانيا على البحر الأسود، وتعد لهجوم شامل مبادر في الربيع المقبل، مع إعادة انتخاب الرئيس بوتين.

كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية