الحديقة

كانت الحديقة وارفة، غير أن شكلها غير منتظم، فهي أشبه بمثلث شاسع متساوي الساقين. قاعدته عند مدخل البيت، تمتد لتضيق تدريجياً عند الجزء الخلفي. لقد خُصِصت تلك المساحة الصغيرة لزراعة الخضروات كالباذنجان والخيار والطماطم والفلفل الحار، إذ هي الأقرب إلى الباب الخلفي المؤدي إلى المطبخ. ولأنها بعيدة، وصغيرة، فقد كانت منعزلة، ولا تكاد ترى. بعكس الجزء الأمامي منها: أرضٌ مغطاة بالعشب، تتخللها بعض البقع الطينية التي فقدت خضرتها لفرط المشي والدوس عليها. تتوسطها الأرجوحة المعدنية بفرشها البالي، والكنبة الخشبية التي خبا لونها وكراسي الحديقة بأطرها المعدنية وحبال النايلون المجدولة.
كانت الحديقة دائمة الخضرة، بنباتات متنوعة كشجيرات الياس وأزهار الرازقي والجوري، التي استقرت بين أشجار النارنج. كان النارنج مفضلاً لدينا، حيث زُرِعت أشجاره بمحاذاة السور المطلّ على شارعين، من أوله حتى آخره. عندما يزهر في الربيع، كنا نجمع «القداح» ونصنع منه قلائد عطرية، نعلقها في أرجاء المنزل. وحين ينضج، كنا نعصر ثماره البرتقالية، فلم نستطع تناولها كالبرتقال. كان النارنج حامض المذاق، لا يستساغ إلا إذا أضيف عصيره إلى السلطة والأطعمة، أو خُلِط بالماء والسكر وماء الورد لتحضير شراب لذيذ ومنعش.
وعلى أي حال، لم تحتو الحديقة على أنواع أخرى سوى شجرة زيتون واحدة، كبيرة جداً وغزيرة الثمر. إذ كنا نملأ أكياساً من الخيش كل عام ونوزعها على الجيران والأقارب ونخلل بعضاً منه لاستخدامنا المنزلي. لم أطق طعم هذا الزيتون أبداً. ما زلت أشعر بالغثيان لمجرد تذكره. كان مراً حد الألم.
وهناك كرمة العنب اليتيمة. لم يكن عنبها وفيراً ولا بالجودة المرجوة. لكنها أثبتت وجودها بجدارة على مدى سنوات طويلة، فقد تسلقت «القمرية» الخشبية التي تظلل «الطارمة» الصغيرة عند المدخل الأمامي للدار. كانت موقفاً للسيارات ولنا حين كنا نلعب تحتها، تقينا حرارة الشمس وزخات المطر وعويل الرياح.
لم أفهم أبداً قصة شجيرة رمان الزينة ولا شجرة الجهنمي التي تجاورها. لقد كانت الأولى صغيرة جداً وتحمل رماناً بحجم السدر «النبق» أما الثانية، فكانت تنزع عنها أزهارها الأرجوانية على الممر الحجري الذي بدا متسخاً على الدوام. كما لم أعرف سبباً لزراعة نبتة الليف المتسلقة، فقد كان شكلها مزرياً على الدوام. كنا نقطف ثمارها التي تشبه القرع المستطيل ونستخدمه، بعد تجفيفه وتقشيره، للاستحمام، لكن، كم ليفة يحتاج المرء؟
وتلك النخلة التي زرعت عند ركن الحديقة، حيث يلتقي الشارعان؛ كانت جميلة، شاهقة، تعانق الغيوم! وكان سعفها عريضاً، يشبه مهفّة يدوية، جذعها طويل، مستقيم كأنها صرح أو علامة فارقة تستدل بها على البيت من مكان بعيد.. لكنها بلا ثمر! وحين أتذكر البوابة الحديدية عند مدخل البيت، لا يفارقني مشهد السدرة التي زرعت عند جانبه الأيمن. كانت شجرة كبيرة، طويلة، تمتد أغصانها لتتدلى فوق حائط السطح. كانت مزعجة، لكننا لم نجرؤ على قطعها أو تشذيب أغصانها. كان الجميع يخشى الخرافات التي تدور حولها: لا يجوز قص أغصان شجرة «السدر» أو اجتثاثها، إذ ستكون العواقب وخيمة.. وسيعاني أهل الدار من الموت أو الفقدان أو الأذى.. لم أصدق هذه الخرافات أبداً، لكني لم أجرؤ يوما على التعرض لتلك الشجرة بسوء. لم يعد للبيت القديم وجود منذ زمن، فقد أزيل وشُيد مكانه بيت آخر، ربما أجمل منه وأحدث! وقد يأتي يوم ننسى فيه معالم ذلك البيت وأركانه، وكل ما احتواه من ذكريات. لكن لن ننسى الحديقة مطلقاً! فلطالما رأينا فيها أنفسنا: أفراحنا التي احتضنتها، الأحزان التي أثقلتنا، أو غرورنا المفرط، حماقاتنا التي أحببناها، أو التي أوصلتنا إلى هاوية ما زلنا نحاول النهوض منها دون جدوى! ورغم كل شيء، ما زلت أحس بغصة حين أذكر حديقتنا تلك، ويحرقني الدمع حنيناً الى أيام لن تعود ثانية.

قاصة من العراق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية