الثورة السورية في سنتها الرابعة: المزيد من الأشياء نفسها

حجم الخط
1

لم يترك شيء لم يجرب في هذه ‘الثورة اليتيمة’ على وصف زياد ماجد: السلمية والسلاح، قمع المظاهرات وتدمير المدن، الأسلحة بأنواعها من السواطير إلى البندقية إلى الطيران والكيماوي والتجويع، الدبلوماسية العربية والدولية، الضغوط على الأطراف بمختلف الوسائل، الصراع الإيديولوجي بين ممانعة وليبرالية، أو بين إسلاموية وعلمانية، مرتزقة وجهاديين، طائفيين و’مدنيين’، ريف ومدينة، حبر وورق وشاشات تلفزيون ويوتيوب وفيسبوك.
مرت الثورة بمراحل يمكن تمييزها، فبدأت سلمية مدنية بمشاركة نشطة من شباب الطبقات الوسطى المدينية، ثم تسلحت بدءا من الأرياف والانشقاقات من جيش النظام وأجهزته، ثم دخل الإسلام والجهاد الذي استقطب متطوعين من أنحاء الأرض، إلى أن استقرت الحال بمدن مقسمة بين النظام والثوار المسلحين، وانغلقت الطوائف والملل على كانتوناتها، ودخلت الحرب دورة استنزاف بلا قرار.
سوريا التي نعرفها أصبحت في خبر كان، مجتمعاً وعمراناً ونظام حكم وثقافة. سوريا الجديدة التي قد تنهض من هذا الخراب والرماد لا تكشف الكثير من ملامحها ولا نعرف موعداً لولادتها. بل إننا لا نعرف ما إذا كانت سوريا جديدة ممكنة، أم ستخلفها دويلات وكانتونات منغلقة على ذاتها أو متصلة بامتدادات لها عبر الجوار في العراق ولبنان وتركيا.
‘الأسد أو نحرق البلد’ بهذا الشعار أطلق النظام حربه على سوريا، فانتهى الأسد وربما انتهت معه سوريا التي نجح في إحراقها. وحققت الثورة هدفها بتحرير سوريا من الأسد، لكن سوريا نفسها سقطت مع العائلة التي حكمتها بالحديد والنار والفساد والكذب والبدائية لأربعة عقود متصلة.
الحرية تحققت أيضاً باعتبارها الهدف الأعلى للثورة، وإن لم تكن بالصورة التي حلم بها السوريون. في كثير من المناطق نسي الناس النظام الذي كتم على أنفاسهم منذ ولدوا من أمهاتهم، وبات مجرد عدو خارجي يقصفهم بالبراميل أو يجتاح بعض مدنهم وقراهم فيرتكب المجازر المروعة ثم يخرج. يمارس الناس حياتهم ‘الطبيعية’ وينظمونها بما يتوفر بين أيديهم من خبز وسلاح وأيديولوجيات وآبار نفط. واستقر المقام بملايين منهم في بلدان الجوار، في المخيمات أو المدن. كما استقر الوضع بأهل النظام إلى الانغلاق في كانتوناتهم الضيقة وواظبوا على رفد جيشهم بالمقاتلين على جبهات الكانتونات المجاورة.
لا أفق لهذه الحرب المديدة. يشكو السوريون من أمرين متناقضين: من إهمال العالم لمأساتهم، ومن تدخله المفرط فيها. كأنهم لا يعرفون أن للدول هموماً ومصالح ومطامح تختلف عن نظيراتها الخاصة بهم. فهي تنأى بحساب، وتتدخل بحساب، وتتصارع فيما بينها بحساب.
استقر الاقتصاد على اقتصاد حرب وكفاف، وعاد الاجتماع إلى جذوره الأهلية، وانفصلت السياسة بميدانها الخاص في المكان والاهتمامات. طبقات جديدة ولدت وبات استمرار الحرب مصلحة لها، واندثرت طبقات قديمة أو هربت إلى بلدان أخرى. رفدت صناعة الإعلام بطاقات جديدة، واكتسبت الثقافة عناصر جديدة. الدولة انتهت وانبثقت مكانها دويلات وأنظمة وحكام، وتشكلت أطر سياسية جديدة موسمية، تتوحد وتتفكك وتتوالد وتندثر. ولدت قطاعات اقتصادية جديدة من ‘تعهدات بناء الأطر السياسية’ إلى مراكز أبحاث إلى ‘اقتصاد مؤتمرات’ وسياحة سياسية وتجارة إغاثية ومكاتب استشارات وعلاقات عامة وتلزيم عمليات عسكرية أو تأجير أسلحة ثقيلة لعملية واحدة.
لا انتصار في هذه الحرب. هناك هزائم متفاوتة يتقاسمها الأطراف المحليون وغيرهم. هزم النظام وانتهى قبل ثلاث سنوات من الآن. وهزمت ثورة الطبقات الوسطى المدينية وتبددت في المنافي وعلى شبكة الانترنت. وهزمت ثورة الإسلام الجهادي بما فيها منظمة القاعدة، كما هزمت الشيعية السياسية المسلحة من العراق إلى لبنان. وهزم التيار الإخواني مع نظيره العلماني من مصر إلى تركيا. هزمت إيران وجوارها الخليجي، وهزمت روسيا وأمريكا والمجموعة الأوروبية ومعها منظمة الأمم المتحدة والجامعة العربية.
فقط طرفان يبدو كأنهما حققا بعض المكاسب الجزئية: إسرائيل والكرد. لكنها مكاسب هشة قابلة للانتكاس، يعود الفضل في تحقيقها إلى نأي الطرفين بنفسيهما عن الانخراط المباشر في الصراع، الأمر الذي فشل فيه لبنان الذي وحده كان رفع هذا الشعار. تخلصت إسرائيل من حزب الله، لكنها تواجه أخطاراً محتملة جديدة: الجهاديون على حدودها. وتخلصت من نظام الأسد الذي كان يناوشها بأدوات إرهابية فلسطينية ولبنانية، لكنها تواجه خطر الفوضى على حدودها الشمالية.
وكسب الكرد مزيداً من الاستقلال ونجحوا في زرع بذور كيانية جديدة. لكنهم لن يتمكنوا من استثمار هذه المكاسب إلا بتوافقات دولية مفقودة، فضلاً عن ارتهانهم لمجموعة مسلحة تزعم تمثيلهم وتتصرف كحاكم دكتاتوري عليهم بلا أفق وطني (قومي) أو ثقافي، بلا تصور واضح عن مستقبل الاجتماع الكردي خارج الكيانات المتقادمة من عهد سايكس بيكو.
الثورة السورية هي أم ثورات الربيع العربي، مع أنها كانت الأخيرة فيها زمنياً. فتحت صندوق باندورا وكشفت النقاب عن طبقات موغلة في القدم كسرت قوقعتها وخرجت إلى الهواء، وأطلقت ظواهر غريبة كالقائد الضرورة عبد الفتاح السيسي وأمير دولة الإسلام أبو بكر البغدادي والداعية الإسلامي فتح الله غولن وجنرالات تركيا الانقلابيين الذين خرجوا من سجونهم برفقة ماركسيين من مخلفات الحرب الباردة…
سوريا انتهت، الثورة مستمرة، رائحة حروب في الأفق العالمي.

‘ كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد أبو النصر - كولومبيا:

    سورية باقية وسيعود أهلها إليها لاعادة أعمارها. قد يستغرق ذلك سنين ولكن حياة الشعوب تقاس بالسنين. نعم المأساة مفجعة ومدمرة ولكن من يستعرض تاريخ سورية يدرك عدد المحن التي مرت بها والتي نهضت من ركامها وعادت الى الحياة.

إشترك في قائمتنا البريدية