التعامل مع مفارقة الذكاء الاصطناعي في العلاقات الاجتماعية

حجم الخط
0

في عصر تتربع فيه التكنولوجيا على عرش السيادة، يبرز الذكاء الاصطناعي كمنارة للابتكار، معيدا تشكيل المشهد من الصناعة إلى التفاعلات الإنسانية الحميمة. الذكاء الاصطناعي، الذي كان يوما مجرد خيال علمي، أصبح الآن جزءا لا يتجزأ من نسيج حياتنا اليومية، متخذا دور الجسر والحاجز في عالم العلاقات الإنسانية. وإذ ننبهر بقدراته، نجد أنفسنا ننتقل إلى نمط جديد من العلاقات، حيث لا يكون الذكاء الاصطناعي مجرد أداة، بل قوة محورية تغير كيفية تواصلنا، وحتى طريقة حبنا. يظهر هذا التأثير العميق للذكاء الاصطناعي بشكل واضح في علاقاتنا الاجتماعية، فالاتصال المُحَسَّن، الذي وعدت به منصات الذكاء الاصطناعي، يأتي مع مفارقة ساخرة – فبينما نحن أكثر اتصالا من أي وقت مضى، هناك شعور متنامٍ بالعزلة، ظاهرة تشبه الشعور بأننا «وحيدون معا».

أظهرت دراسة أن الشباب يشعرون بالوحدة أكثر في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، ما يدل على أن التفاعلات الرقمية لا يمكن أن تحل محل التواصل الإنساني المباشر وجها لوجه

دراسة أجرتها شركة «سيغنا» في عام 2020 سلطت الضوء على هذا التناقض، حيث أظهرت أن 73% من الشباب يشعرون بالوحدة أكثر في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، ما يدل على أن التفاعلات الرقمية التي يسهلها الذكاء الاصطناعي هي خاوية، ولا يمكن أن تحل محل عمق وغنى التواصل الإنساني المباشر وجها لوجه. فوق هذا، يظهر تأثير الذكاء الاصطناعي في إعادة تشكيل مهارات الاتصال، خاصة بين الأجيال الأصغر سنا، فقد أدى ظهور روبوتات الدردشة والمساعدين الافتراضيين ومنصات التواصل الاجتماعي إلى انخفاض في قدرات التواصل وجها لوجه. هذا التحول، كما يشير تقرير صادر عن «مايكروسوفت» عام 2019، يتميز بانخفاض متوسط مدة الانتباه، جزئيا بسبب الواجهات الرقمية، ما يؤثر على بناء العلاقات. ويشير هذا الاتجاه إلى تأثير أعمق للذكاء الاصطناعي على المهارات الشخصية، لا يقتصر فقط على مشاعر العزلة.
وفي مجال العلاقات الرومانسية، يكون تأثير الذكاء الاصطناعي ملحوظا بالمثل، فقد غيرت الخوارزميات في تطبيقات المواعدة «Dating» طريقة البحث عن الشركاء، من خلال تحليل تفضيلات المستخدمين لزيادة احتمالية المطابقة. ومع ذلك، يجلب هذا التقدم التكنولوجي تحدياته الخاصة، مثل «مفارقة الاختيار». هذا المصطلح يشير إلى كيف يمكن لوفرة الخيارات، التي تبدو مفيدة في الظاهر، أن تؤدي إلى شلل القرار وعدم الرضا. فغالبا ما يجد مستخدمو تطبيقات المواعدة أنفسهم غارقين في عدد هائل من الشركاء المحتملين، ما يؤدي إلى علاقات عابرة وصعوبة في الالتزام بخيار واحد. أشار استطلاع أجراه مركز «بيو» للأبحاث في عام 2021 إلى أنه بينما استخدم 30% من البالغين الأمريكيين تطبيقات المواعدة، أبدى الكثيرون الإحباط وعدم الرضا، وهو انعكاس مباشر لهذه المفارقة. علاوة على ذلك، غير الذكاء الاصطناعي الممارسات التقليدية للمواعدة وهياكل الأسرة، ما أدى إلى علاقات أكثر تنوعا، ولكن أيضا إلى تغيير ديناميكيات الزواج. تتفاوت درجة القبول الثقافي للعلاقات المدعومة بالذكاء الاصطناعي ضمن نطاق واسع. فقد سلط تقرير صدر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «يونِيسكو» عام 2022 الضوء على تباين تقبل الذكاء الاصطناعي للمواعدة حسب المنطقة. لا يعكس هذا التنوع التطورات التكنولوجية فحسب، بل يسلط الضوء أيضا على المواقف الثقافية المتنوعة تجاه الذكاء الاصطناعي في العلاقات الشخصية. من جهة ثانية لوحظ نشوء ظاهرة غريبة ومثيرة للاهتمام هي تطور مشاعر رومانسية تجاه الكائنات الرقمية، مثل روبوتات الدردشة الذكية، أو الشخصيات الافتراضية من مثل «سيري»، أو «أليكسا» وهما روبوتا الدردشة الخاصة بشركة «آبل» و»امازون» تباعا. واقترحت دراسة أجرتها جامعة ستانفورد في عام 2023 أن 15% من مستخدمي روبوتات الدردشة الذكية أبلغوا عن وجود ارتباط عاطفي تجاه هذه الروبوتات، مما يوضح تعقيد التفاعلات بين الإنسان والذكاء الاصطناعي مما يعبر عن حاجة نفسية أعمق للتواصل، ويطرح في الوقت نفسه تساؤلات أخلاقية حول الاعتمادية وطبيعة هذه العلاقات الرقمية.
أن هذا الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي للدعم العاطفي سيف ذو حدين. فمن جهة، يطرح مخاطر الإدمان على العلاقات الافتراضية، ما قد يؤدي إلى المزيد من العزلة الاجتماعية. ومن جهة أخرى، وكما أظهر استطلاع أجرته الجمعية الأمريكية للطب النفسي مؤخرا، قال 40% من المشاركين، إن التفاعلات مع الذكاء الاصطناعي أقل إجهادا وتطلبا من التفاعلات البشرية، مما يشير إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يقدم العزاء لأولئك الذين يعانون من القلق الاجتماعي، ويكون بمثابة مساحة تفاعل آمنة. كذلك فإن انتشار تطبيقات العلاج والاستشارات المدعومة بالذكاء الاصطناعي يوضح هذه الثنائية. فهذه المنصات، التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لجلسات العلاج الشخصية، توفر دعما نفسيا يسهل الوصول إليه، مع توفير الراحة والخصوصية. ومع ذلك، وكما أشار تقرير لـ»منظمة الصحة العالمية» في عام 2023، لا يمكنها أن تحل محل المعالجين البشريين بشكل كامل، خاصة في ما يتعلق بالقضايا العاطفية المعقدة. وهذا يبرز أهمية إيجاد توازن بين فوائد الذكاء الاصطناعي وقيوده في معالجة الاحتياجات العاطفية البشرية. وبينما نرنو إلى المستقبل، يبدو أن دور الذكاء الاصطناعي في العلاقات الإنسانية سيشهد نموا متزايدا، مع تقدمه في فهم وتحليل العواطف، الأمر الذي قد يقود إلى تفاعلات أعمق وأكثر معنى مع كيانات الذكاء الاصطناعي.
ومع ذلك، تطرح هذه المسيرة تساؤلات أخلاقية عميقة تتعلق بالهوية الإنسانية، والصحة العاطفية، وجوهر العلاقات الإنسانية. وبينما نتجول في هذا المشهد المتطور، سيكون المفتاح هو إيجاد التوازن بين فوائد الذكاء الاصطناعي واتباع نهج واعٍ للحفاظ على العلاقات الإنسانية الأصيلة، مع ضمان أن تعزز التكنولوجيا التجربة الإنسانية بدلا من أن تحل محلها.
باحث فلسطيني في مجال الذكاء الاصطناعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية