الترجمة أمام جدار ناصر أبو سرور

حجم الخط
0

إذا صحّ لدارس/ ناقد أن يُفرد لأدب السجن الفلسطيني موقعاً خاصاً مميزاً ومتميزاً في مستويات المحتوى وخصائص الشكل معاً، فإنّ «حكاية جدار»، عمل الأسير الفلسطيني ناصر أبو سرور، تصلح مادّة أولى رفيعة السمات وعالية القيمة وخصبة المعطيات لإطلاق سجال حيوي لصالح ذلك الانفراد، والبناء عليها في تلمّس ما ينفرد أو يتفرّد. وهذه السطور تنحاز بقوّة إلى نصّ أبو سرور تحديداً وخصيصاً؛ حتى إذا كان المقام هنا لا يتناول العمل في ذاته وبصرف النظر عن مقادير الإيجاز التي يتيحها عمود في صحيفة يومية.
مناسبة هذه السطور ليست إذن اقتراح الحدود الدنيا الموجزة من إطراء كتابة جديرة بأعلى درجات التثمين، الأدبي واللغوي والفني والأجناسي والسياسي والأخلاقي، صدرت عن أسير فلسطيني محكوم بالسجن المؤبد منذ 1993 ورفض الاحتلال إطلاق سراحه على امتداد سلسلة من عمليات تبادل الأسرى. يُشار أيضاً إلى أنّ أبو سرور أتمّ دراساته العليا من داخل الزنزانة، في الأدب الإنكليزي والعلوم السياسية؛ كما كتب مجموعة شعرية بعنوان «السجن وأشياء أخرى»، صدرت سنة 2021 عن دار الشروق؛ وأنجز كتابه «حكاية جدار» التي صدرت عن دار الآداب في سنة 2022.
هذه السطور تتوخى، في المقابل، تثبيت علامة تقدير، عالية بدورها، للمترجم الأمريكي لوك ليفغرين الذي نقل «حكاية جدار» إلى اللغة الإنكليزية، وصدرت مؤخراً عن منشورات Other Press في نيويورك؛ وهو، للعلم، مترجم خمسة أعمال عربية، آخرها رواية «مستر نون» أحدث إصدارات الروائية اللبنانية نجوى بركات. وقد تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ ليفغرين كتب أطروحة دكتوراه لافتة تناولت تلقّي المسيحيين العرب النهضويين للنماذج الأوروبية في القصّ التاريخي، وتطويعها لكتابة روايات عن فتوحات المسلمين.
وفي حاشية تختتم الترجمة الإنكليزية، يثير ليفغرين بضع مسائل تخصّ سيرورات الترجمة ومسلك المترجم بصفة عامة، وتركز بصفة أكثر استفاضة على خياراته في ترجمة «حكاية جدار» تحديداً؛ على رأسها اثنان من الأسباب التي دفعته إلى هذا النصّ، وإلى إتمام الترجمة خلال المهلة الأسرع: الأوّل، أنّ أبو سرور يقبع في السجن منذ 30 سنة، وأيّ تأخير في نقل مذكراته إلى الإنكليزية سوف يعني المماطلة بحقّ رجل انتظر زمناً طويلاً كي يُنقل صوته الإبداعي إلى العالم؛ والثاني هو حرص المترجم على فتح أبواب التفاهم أمام أولئك الراغبين في اقتفاء خياراته، خاصة أنّ رسالة النصّ لا يمكن أن تكون أشدّ إلحاحاً وراهنية.
صحيح، كما يوضح ليفغرين من باب إحقاق الحقّ، أنه لم يكن الطرف الأوّل وراء اختيار كتاب أبو سرور، والفضل يعود إلى جوديث غورويش المحررة في دار النشر التي اقترحت ترجمة العمل؛ إلا أنّ الخيارات العديدة التي استقرّ عليها المترجم خلال الاشتغال على الترجمة حوّلته إلى محرّر للكتاب، أسوة بترجمته، كما يقول. ذلك ناجم أيضاً عن أمر واقع تمثّل في صعوبة التواصل مع المؤلف لاستيضاحه في هذا التفصيل أو ذاك، كما يحدث عادة بين مترجم ومؤلف على قيد الحياة. وصحيح أنّ أقرباء أبو سرور وبعض أصدقائه تمكنوا من تهريب نسخة الترجمة إلى الزنزانة، وأنه وضع بالفعل سلسلة ملاحظات، كما وافق على حذف إحدى القصائد.
الصحيح الآخر، الجدير بالتنويه والإشادة، هو مبادرة ليفغرين إلى إغناء استقبال النصّ لدى قارئ يقرأ بلغة كونية مثل الإنكليزية، بوسيلة إدراج تعريفات لغوية أو توضيح سياقات ثقافية، مع حرص في كلّ الأمثلة على منحى أبو سرور المميز في «مراكمة التأملات واحدة تلو الأخرى». يُضاف إلى هذا ما تمثّله سردية أبو سرور في ذاتها من تحديات، سواء له شخصياً أو للعالم الخارجي، الأمر الذي «أصابني بالفزع إزاء احتمال فشلي في ذلك»، كما يكتب ليفغرين.
وللمرء، كما تفعل هذه السطور، أن يتوقف عند صعوبة في الترجمة محايثة للمصاعب العامة المألوفة إزاء التصارع بين النصّ الضيف والنصّ المضيف، أو قد يصحّ الافتراض بأنها في حالة أبو سرور ليست مألوفة تماماً ضمن كلياتها المعطاة؛ أي مدى مراوغة النصّ، وانفلاته، وسيولته الفائضة، وانعتاقه من ضوابط شتى… إذا كان تصنيفه الأجناسي ينوس، ضمن توازنات بارعة وفريدة، بين السرد والشعر والبوح والاعتراف والمذكرات الشخصية. لعلّ أحد أفضل الأمثلة تعبيراً عن خيارات أبو سرور الأسلوبية التعددية، فصل بعنوان «فراق»، يبدأ باقتباس هذا البيت من كثيّر: «حَيّتْ بُثينُ قبيل الصبح وارتحلت/ فَحَيّ ويحك من حيّاك يا جملُ»، ثمّ يتعاقب النصّ هكذا: «عجبتُ دوماً خلال قراءتي لشعرنا الجاهلي من غزير مفرداته في جغرافيا صحراوية قاحلة، تقلصت أبجدياتها الطبيعية في رملها وشوكها وكثرة الشمس وقلّة الماء. عجبتُ من عميق مشاعره ورقّة إحساسه على الرغم من بداوته الخشنة (…) وعجبت من قدرته على تمديد وتوسيع أبجديته المختصرة حين جعل لكل اسم فيها مائة مرادف ويزيد. فعل عبقري لشعر ظلمناه حين ــ عن جهالة ــ أسميناه جاهلياً».
ويبقى، بالطبع، أنّ توقيت إنجاز هذه الترجمة ونشرها، في السياقات الراهنة من حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزة، إنما يقترن بشجاعة أخلاقية ومهنية استثنائية جديرة بالتقدير.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية