البعد الكتابي في الشعر المغربي: من اللعب باللغة إلى تَفْضئة الصمت

«يقتضي هذا أن يكون المعنى كتلة، وفي هذا نظر. ذلك أن الفراغ ليس شيئا، غير
أنه طاقة. ولنقل: جبارة. هل أحتاج إلى دليل أو أكثر؟»

(محمد بنطلحة)

بعد الاستقلال السياسي، ابتداءً من ستينيات القرن العشرين، توجهت القصيدة المغربية بضفافها خارج التيارين المحافظ والرومانسي اللذين كان يتلقفهما جمهور الشعر، متأثرا بحركة الشعر الحر التي انطلقت من أرض العراق، مع الثالوث الريادي: بدر شاكر السياب، نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي، وذاعت في أكثر البلاد العربية بفضل المجلات الأدبية والمجاميع الشعرية، التي كانت تنتظم في الصدور.
كان معظم ممثلي هذه القصيدة من الشباب المغربي، الذي نال حظاً من الثقافة والتعليم الجامعي، بما فيه الذي تلقنه حتى من جامعات بغداد ودمشق والقاهرة، وهو ما كان يعني صلتهم المباشرة بمناخ تلك الحركة وزخمها العاطفي والفكري، من أمثال أحمد المجاطي، ومحمد السرغيني، ومحمد الخمار الكنوني، ومحمد الميموني، وعبد الكريم الطبال وأحمد الجوماري. وإذا كان أكثر هؤلاء قد كتب في أول عهده القصيدة العمودية، مترسماً خطى سالفيهم، أو زاوج بينها وبين قصيدة التفعيلة، إلا أنه سرعان ما اختار أسلوب القصيدة الحرة، لعقودٍ تالية.
وبناءً عليه، لا نذهب مع آخرين في رأيهم بأنه كانت هناك قطيعة بين فترتي تحديث الشعر المغربي، أي ما قبل الاستقلال وما بعده، بل هي بالأحرى تُجسد موجاتٍ من زخم التجديد والرغبة في مسايرته، تبعاً لرؤى الشعراء وحساسيات ذواتهم وعصرهم الذي كانوا يعبرونه.
وفي الوقت الذي كانت تحصد فيه قصيدة الشعر الحر أسباب النجاح، وتتطور بشكل متنامٍ على يد شعراء ملكوا الموهبة والخبرة بأدوات الشعر وعاركوا مضايقه، بقدر ما كانت تُوسع دائرة تلقيها تباعاً، كانت قصيدة الشعر العمودي تفقد تدريجياً حلبة القول الشعري للأولى، وتنحدر إلى طريق مسدود بعدما غلبت عليها النزعة «المناسباتية» الفجة، التي جلبت عليها أدعياء الشعر وناظميه بلا طائل، فبدت خلواً من التجويد الفني وصدق التعبير وحرارته.
وابتداءً من سنوات السبعين، ظهر جيل من الشعراء لم تُغْرِهم حبائل السلطة، بل قدموا من تجارب جديدة تولدت عن وعي فكري وأيديولوجي أكثر منه آنيا وعابرا. من أولئك من بقي منتصراً لنهجه التحرري في الالتزام بقضايا المجتمع المغربي الذي كان يمر بفترة عصيبة بعد اشتداد سنوات الرصاص، بمن فيهم محمد الوديع الأسفي ومحمد الحبيب الفرقاني وسواهما. ومنهم من أخلص في وعيه الشعري، تحت الدعوة إلى أدب إسلامي، لتيارٍ بدا نابعاً بطبيعته من نزوعات الفكر الإيماني والصوفي، إذ يهتم بهموم الأمة ويستلهم تراثها الإسلامي المضيء.
ومنذ ما بعد الثمانينيات وإلى الآن، بدا لنا أن هناك جمالياتٍ جديدة يبدعها الشعر المغربي، إذ قطعت مع ما سبقها، وكرست وعياً جديدة بالمسألة الشعرية برُمتها، بعد أن رفعت عنها السياسي والأيديولوجي، ويممت بوجهها شطر المغامرة.

قَــلْبٌ كتابي

ابتداءً من التجارب الشعرية المتزامنة والممتدة، وفي سياق قصيدة النثر والتأثر بنماذجها الكبرى، كان الوعي لدى الشعراء بِشَرط كتاباتهم الكتابي يتقوى ويبرز بشكل مُطرد، حتى وجدنا لديهم، نتيجة ذلك، ضروباً من الكتابة التي لا تخضع لقواعد، أو على الأقل تفرض قواعد خاصة بها تُفجرها من داخلها، وقد مالت أكثر إلى القصر والاقتصاد في اللغة والتكثيف، وإلى تشظية وعي الأنا بنفسها وبالعالم، مثلما عملت على تشذير البناء النصي، وأولت الدال الأسبقية في تشييد متخيلها وتفجيره في آن. ففي مقابل تجانس الانسجام الذي تشد أجزاءه رقاب بعضها ببعض، تصنع الشذرات «نصاً» متشظياً، كثيفاً، مفارقاً، شفافاً، متعدداً ومفتوحاً. ذلك ما دشن، في حقيقة الأمر، أسلوباً جديداً في الكتابة وحياتها، من ذات إلى ذات: أحمد بركات، وعبد الله زريقة، ومحمد بنطلحة، ومبارك وساط، وحسن نجمي، ومحمد الشركي، ونور الدين الزويتني، تمثيلًا لا حصرًا.
بموازاة مع هذا القلب الكتابي الذي سيتوسع مع شعراء الحساسية الجديدة، لم تكن مثل هذه الكتابة مجرد شكل أو أسلوب، وإنما كانت تحمل محتوىً يعكس فلسفة ما، وفهماً خاصاً للذات والكتابة واللغة والعالم، إذ تطبعه روح المفارقة، ويقف ساخراً أو لذوعياً أو غير مُبالٍ من حياتنا المعاصرة في شكل ومضات وتشذرات تفكك وهم الواقعي وترصد منطق الخلل الذي يهيمن على تلك الحياة ويطبعها؛ فظهرت الكتابة الشذرية نافرةً من ذهنية النسق، وأقل رزانة وأقرب إلى التأمل الداخلي والمرح الديونيزوسي.
وفي مقابل شعراء عملوا على الإيقاع، فارتفعوا به كدال رئيس في بنية القصيدة، وجددوا فيه بنسبٍ متباينة، بمن فيهم محمد الميموني، وعبد الكريم الطبال، وإدريس الملياني، وأحمد بنميمون، وعلال الحجام، ومالكة العاصمي، وأحمد بلحاج آية وارهام، ومصطفى الشليح، ومحمد علي الرباوي، وأمينة المريني، ومحمد عنيبة الحمري ومحمد الشيخي؛ فإن هناك تجارب، مجايلة أو تالية لها، قد ربطت دال الإيقاع بالرؤية أو العين، فاهتمت بالخط وتدبير فضاء الصفحة أو بياضها، في سياق ما اصطلح عليه بالقصيدة الكاليغرافية (الكونكريتية) أولاً، أو بالكتابة وإعادة الكتابة تالياً؛ وذلك ما دفع المغامرة إلى ضفافٍ أخرى. من إيقاع يلعب باللغة وتسلى معها إلى إيقاع يحاور الصمت ويعمل على تَفْضئته.

إننا أمام مقترحٍ كتابي يُدخل (البيت الشعري) في أزمة مفهومٍ وتلق، بحيث تخلو تشكلاته عبر الخطاب من عناصر القافية والوقف والترقيم، فلا يشتغل إلا المكان (الحيز، السند) متدفقاً يتسلى مع أبعاد الصفحة الشعرية ويخيب إحداثياتها.

كاليغرافيا

ظل الشاعر أحمد بلبداوي، ضمن آخرين ماتوا أو سكتوا، وفياً لنزوع القصيدة البصري أو الكاليغرافي. منذ ديوانه «سبحانك يا بلدي»، مروراً بـ»حدثنا مسلوخ الفقروردي» و«هبوب الشمعدان» و»تفاعيل كانت تسهر تحت الخنصر»، وانتهاءً بـ«حتى يورق ظل أظافره»، نكتشف شغف بلبداوي بالخط الذي يُشكله بيده هو: مغربي، راعش بحركة جسده، مائل، سميك، متمرد على استبدادية اليمين، ناتئ، أجوف، مترنح، غامق، ذائع، إلخ. إن لليد وحركاتها، هنا، ما يحقق للصفحة الشعرية جماليتها الكاليغرافية، وتدبير الصفحة العلامي- البصري المائز، ودلاليتها الخاصة، ويحقق توقيع الشاعر الشخصي نفسه. إن مقصدية الكتابة لدى الشاعر في إغواء العين واستمالتها لَمما يعطل الدال الصوتي تقفيةً وتكراراً وترجيعاً؛ وهو إذ يؤثر من الأوزان الشعرية بحر الخبب، إنما بسبب رخصه العروضية الكثيرة (فَعْلُنْ، فَعِلُنْ، فاعِلُ، فَعْلانْ، إلخ)، وما يترتب عليه من تنوع إيقاعي صعوداً وهبوطاً، لا يتقيد بتركيبٍ وتد – سببي محدود الإمكانات، كما في باقي البحور. ذلك ما يتيح للشاعر أن يُناور كتابياً، فهو لا يهمه من الكتابة بعدها العلامي- الأيقوني، بل يتعداه، أو بالأحرى يستغله، لتحقيق بعد بلاغي أكثر خطورة، يتجلى في استثمار متواليات النفس السردي- الحكائي وخطاب الباروديا الذي يسخر من الأشياء بقدر ما ينزع عنها قدسيتها. إن ما يحققه بلبداوي في فضاء كتابته ليس تعطيل البعد الصوتي وحسب، بل تقويض ميتافيزيقا المعنى وثنائيته.
شاعر آخر بدأ كاليغرافياً شأنه شأن بلبداوي، إلا أنه سرعان ما نحا بكتابته إلى أفق آخر. لا يمكن اليوم أن نفصل ما يكتبه محمد بنيس عن وعيه النظري للشعر في «بيان الكتابة»، الذي أصدره في بداية الثمانينيات، ثُم عن «كتابة المحو» تالياً. ترتد مجمل أعمال هذا الشاعر، ابتداءً من ديوانه «ورقة الهباء»، إلى وعيٍ كتابي- تشكيلي كان ينظر إلى الكتابة كممارسةٍ تشْكُل في علاقتها بـ(المكان) و(الجسد)؛ وهو ما بلبل، من داخل اختياراتها العروضية – الإيقاعية، حدود البيت الشعري وتناظراته، إذ بدا البيت يأخذ أوضاعاً متبدلة منتظمة حيناً، ومشظاة حيناً آخر، أي الصفحةُ كاحتفالٍ: استرسال. تدوير. تفضئة. أسلبة. التباس الوزني بالنثري.
داخل الكتابة كما يقترحها محمد بنيس، هناك أكثر من نص يتحرك أفقياً وعمودياً، ومن الأعلى إلى الأسفل، غير منقطع ٍ عن بنيته الوزنية (الخبب، الكامل والوافر)؛ فيما يكف البياض عن أن يكون محايداً ليصير عنصراً دالاً ذا اعتبار في مسار إنتاج المعنى، ودلالية الخطاب. إننا أمام مقترحٍ كتابي يُدخل (البيت الشعري) في أزمة مفهومٍ وتلق، بحيث تخلو تشكلاته عبر الخطاب من عناصر القافية والوقف والترقيم، فلا يشتغل إلا المكان (الحيز، السند) متدفقاً يتسلى مع أبعاد الصفحة الشعرية ويخيب إحداثياتها. بهذا التصور، يقترح الشاعر علينا كتابة متحركة تختط إيقاعها في علاقته بالجسد وحواسه، وهو ما يتأكد في دواوينه الأخيرة، إذ يستدعي ذرائع جديدة للعبور بتجربة الكتابة إلى ضفاف زرقاء: الدوار، الانتشاء، التلاشي، إلخ.

فقاعات حبرية

أما الشاعر المهدي أخريف فإنه يختبر تصوره للكتابة داخل القصيدة الطويلة التي تسرح فيها الدوال في كل اتجاه: القصيدة باعتبارها شِعْباً كثيفاً من الرموز، والأبعاد، والشذرات، والتبئيرات، والاسترسالات الغنائية المتقطعة أو تهويمات الأنا المُفضأة في علاقتها بالآخر/الأنت. لنقل، بتعبيره الخاص، إنها (فقاعات حبرية)، وإن مجموع ما يجري فيها ويتمدد ويتناسل منها إنما يحدث بـ(محض قناع).
في مثل هذا التصور، يتكشف وعي الشاعر بمادة الكتابة وماديتها. الكتابة التي تُواجه حُبْستها، وتشع في عبور البياض الذي يتعيش، بدوره، على فائض المعنى ويكف عن أن يكون بياضاً فقط، داخل بناء لولبي يعبره الإيقاع، الصوتي والخطي، محسوساً، متقطعاً، لامرئياً وغير مدرك، على نحوٍ يكشف عن قلق الذات الكاتبة ونواياها في مسعى ما تنصرف إليه. لا نسق قبلي، ولا خارج: يمزج بين الوزني والنثري، ينتهك نسق العروض ويرخص لنفسه من أعاريض البحر الواحد ما لا يجوز. لكن أخطر ما في هذا التصور أنه يُفكر في الكتابة من داخل الكتابة نفسها: الشعر والميتا شعر. فحدوسات الشاعر وانطباعاته ومفهوماته يسوقها عبر كتابته، كما أن الكتابة نفسها تدل على ما تُفكر فيه وتشير إليه من الدوال والثيمات، فينعشها كفعل: الغياب، الصمت، الحلم، الخيال، النسيان، الموت، الإيقاع، الزمان، الحبر، إلخ. كما أن اختياره لعناوين مجامعيه الشعرية ليس أقل دلالة وتبئيراً، بما في ذلك «الثلث الخالي من البياض».

فضاء ثالث

من داخل فضاء قصيدة النثر، ووعيه الكتابي للشعر، يقترح الشاعر صلاح بوسريف مفهومه الخاص للكتابة، متجاوباً مع تجاربها الموازية الأخرى، ومنفصلاً عنها في آن، بديلاً عن القصيدة كـ»اختيار تام ونهائي» يحمل شفاهيته، كما في نظره. ينبغي أن تقرأ الكتابة كعلاقات حادة تتم في اللغة وعبرها، كما لم تُقرأ من قبل. من الكتابة إلى إعادة الكتابة، إذ ليس ما يُكتب هو ما يهم داخل فضاء الصفحة، بل ما يُشكل ويُعاد توزيعه خطياً ومقطعياً، متوتراً في البياض والفراغات والخطوط، كما في علامات الترقيم التي تستعيض عن القاع الصوتي لنص الكتابة بقدرما تختط دلاليته، وتتلألأ. إن أنا الكتابة، هنا، لها حساسية في ما تراه وتنزع إلى رؤيته بشكلٍ مُفارقٍ، ولامرئي: يقول: «يدي/ كانتْ تُزاول النسيان/ ولساني/ كان أوْشَك أن ينام في خرسه» (شرفة يتيمة).
ذلك ما نكتشفه على الأقل، في «شرفة يتيمة» و»مشارف اليتم»؛ وهو ما يجعله يُقوي في مقام كتابته حضور الدال الشعري بأضلاعه البلورية الكثيفة التي تتراقص على أجناب الصفحة، وبالتالي يجعل الكتابة، باعتبارها نَصاً دينامياً مفتوحاً يتجاوز حدود النوع، قابلة للاشتغال ومتجاوبة مع شرطها النصي الذي يُضاعف عمل الدوال، ومع شرط السيرة الذاتية الذي يستثمر معمارها المتراكب وإمكانها السردي بقدر ما يوسع تخييلات الأنا وقناعها المرئي المتعدد كما في عمليه: «رفات جلجامش» و»ياااا هذا تكلم لأراك».
من اللعب باللغة إلى تفضئة الصمت والفراغ وشعرنة الأثر، أخذ الشعر المغربي المعاصر يطرح جماليات مغايرة وجديدة في فهم العلامة الشعرية وتأويلها، من منطقٍ يُشتت الفضاء، ويُحطم علاقات الزمان والمكان، ويُفجر وحدة العلامة وانسجامها العقلاني، فيما هو ينتهك احتمالات الدلالة ويعطي أسبقيةً لمحسوسية الدال وامتداده مرئياً ولا مرئياً في الكتابة وعبرها.

٭ شاعر مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبدالنبي بزاز:

    أسماء وازنة في الشعر المغربي الحديث بما أضفته على متنه من تجديد وتغيير كعزيز لحصيني وعلال الحجام وإدريس عيسى …

إشترك في قائمتنا البريدية