البصر والبصيرة بين الدين والدنيا

يرى العلم أن نور الشمس أحمر مصفر في أصله، لكن تكسرات الضوء خلال مروره في سماء الغلاف الجوي تجعله يصبح أزرقاً. أما من فقد البصر فلا يرى الإثنين.
لا أستطيع وضع نفسي مكان من فقد حاسة البصر. تلك نعمة لا يعرف قيمتها إلا فاقدها. لكن العمى الظاهر ملموس، أما عمى البصيرة فهو مشكلة لا نراها غالباً، وإن كنا نُتّهم ونتهم به غيرنا كثيرا.
نحن نرى أنفسنا بعين المشفق في أبسط الأحوال، بينما يأخذنا الغرور والكبرياء إلى ما هو أبعد من ذلك. لهذا نحن قادرون في الغالب على نقد الآخرين، عاجزون عن نقد أنفسنا دون تبرير يخرجنا من مأزق ألا نحترم أنفسنا المفعمة بالأنا، وفي كثير من الأحيان نحن نعجز عن رؤية عيوبنا فلا نصل لمرحلة تبريرها أصلاً.
يشير الموروث العربي أن هناك فرقاً بين فقد حاسة البصر التي تمكن الإنسان من النظر ورؤيا الأشياء، وبين البصيرة المتعلقة ببعد الإدراك السياسي والاجتماعي والاقتصادي والوجداني، مع تشابه الصفات، فالبصر يضعف ويضمر فيعجز معه إدراك وتلمس المحيط المنظور، وعمى البصيرة يسبب حالة من الشلل في إدراك ما يترتب على أفعالنا وأقوالنا وضمائرنا، وهو ما يعني أن عمى البصيرة أمر متعلق بالإدراك النافذ إلى ما هو أبعد من المحسوس، ولذا كانت البصيرة محط اهتمام ديني كبير، لأنها تتجاوز المحسوس إلى ما هو أبعد، وتركز على كل ما هو لا مادي وملموس في هذه الحياة، انطلاقا إلى اليقين بالغيب وما يصعب إثباته على أرض الواقع.
عموماً، فإن التراث الإسلامي يفسر البصيرة من منطلق النصوص القرآنية التي توحي بأنها إعقال اليقين بملكوت الله وإرادته، وفهمها من قلبٍ يتحلى بالوعي النقي. لكن تلك النصوص لم تضع عمى البصيرة في نطاق التشخيص والعلاج، إلا من خلال اعتبار الإيمان بالحق – الغيبي في معظمه- طريقا مؤدياً إليها. هذا يطرح تساؤلاً حول ما إذا كان الحق جلياً إلى هذه الدرجة وإن كان أعمى البصيرة مدركاً للحقيقة متعاميا عنها ليس إلا، أي أن عمى البصيرة اختيار، بعكس عمى البصر الذي نادراً بل شاذا- أن يكون اختياريا. ماذا إذاً عن عمى البصيرة فيما يتعلق بحياتنا الدنيوية، في آرائنا حول أنفسنا وحول ما حولنا، وفي قناعاتنا المؤدية إلى أفعالنا وأقوالنا؟ أليست تلك دنيوية هي الأخرى، أم أنها تشكل في مجملها صورة الدين الذي أرادنا الله أن نكون عليه في الأصل، قبل كل الممارسات التي تميز سلوكياتنا نحوه؟! أي شخص يؤمن بالله يستحيل أن يظن أن الله خلقنا لنكون عميانا.
يتساءل الملحدون مثلاً، ألا يقول الله إن الدين عنده هو الإسلام، أي بمعنى آخر هو التسليم والخضوع لإرادة الله واليقين بوجوده وقيّوميته دون وعي وإدراك ملمــــوس؟ إذاً كيف يمكن أن يكون الدين إبصــــاراً؟ ألا يطــــالبنا اللــه هكذا أن نعمى عن كل ما يشكك في وجوديته ونسلّم فنسلِم لأننا ببساطة لا نستطيع أن نراه جهراً؟ وتكثر الأسئلة بعدها وكثيرا ما يتهكم الملحدون عند طــرحها ليزدادوا إيمانا بإلحادهم- والمشكلة تكبر لأن مؤسسة الدين تعاني فقراً في التفكير المنطقي والعقلاني، ونادراً ما تجد عالما بالدين قادرا على استيعاب أي سؤال من خارج صندوق الموروث.
ليس هناك حل لكل تلك التساؤلات المحيرة في نظري سوى أن نضع أمامنا قناعة أن الدين يراد به أن نكون ذوي بصائر أولا، حتى نتمكن من اليقين بالله لا أن يحدث العكس. أي أننا لن نسلم ونسلّم قبل أن نمر بكل الشكوك التي تعتري عقولنا وقلوبنا، وأن الإسلام الذي يولد معنا ليس إلا عرفاً لا يشترط أن يجعلنا مسلمين بالضرورة، لأنه عاجز وحده عن أن يصوغ إنسانيتنا التي تتطلب منا أن نكون ذوي بصائر. وبلا بصائر فنحن مقلدون لا أكثر. يشبه الأمر أن تولد أعمى وتتعلم طوال حياتك كيف تدرك ما حولك، وحينها يتكون عندك إدراك أن الخشب صلب وأن الماء سائل، وفي نفس الوقت تتعلم أن السماء زرقاء وإن لم ترها، وأن الشمس تشرق وتغرب وأن القمر يتجزأ ويكتمل. أنت عندما تكون أعمى البصر، لن تستطيع تلمس الشمس والقمر من مكانك على الأرض، لكنك ولاكتمال الصورة بحاجة للثقة أن ما يراه كل من حولك حقيقي. في الوقت نفسه وحتى تثق بوصف من حولك لكل ذلك، ستضع ما يروونه من أحاديث وأقاويل تحت ميزان عقلك الواعي، وقلبك المستنير، فإن قبله واستأنس به صار بديها. قد يأتي أحد العميان ويقول أن السماء حمراء لكن أعين الناس تراها زرقاء لعيب في تكوينها وعملها، وقد يكون الأمر حقيقة، لكن ذلك الأعمى سيبدو أحمق بادئ الأمر، حتى يثبت ما يقوله بالدليل.
نحن نولد عميانا بالضرورة، أيّ إيمان أو إلحاد يبنى على ما تبصره أعيننا فقط، سيتداعى، لأنه لم يتسلح بقناعة نهائية حول ما لا نستطيع أن نراه. فلو كانت تلك القناعة ضرورة مع استحالة رؤيتها، فمن الأولى أن تكون مبنية على كل ما يمكن إجراؤه من محاولات، لا أن تبنى القناعات على كسل أو استعباط أو تقليد. إن كنت ملحداً فأتمنى أن تثبت لي أن قناعتك بأن لون السماء هو ما تراه فقط هي نابعة من إدراك كامل أن لا شيء أبعد من النظر، وإن كنت مؤمناً فلا ينبغي أن تسلم جزافاً بأن السماء التي تراها حمراء لأنك تريد أن تراها هكذا فقط، دون أن تحاول ولو مرة واحدة أن تبحث في أصل الشيء وتتبين حقيقته. لو عمل بذلك أي من الاثنين، لما كنا في أزمة مع الحق والباطل ولما كانت هناك عداوة بين الكافر والمؤمن. لكن السبب أو المسبب الذي دعا إلى وجودنا في هذا الكون أراد أن نكون تحت هذا الاختبار دائما. وأعتقد أن من يؤمنون بما وراء المحسوس والمنظور هم أولى بالمبادرة إلى النظر ببصائرهم قبل أن يؤمنوا بما وراء البصر.

‘ كاتب اماراتي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد عبد الرحمن - السودان:

    عذرا أخي الكاتب و لكن لا مؤسسة دينية في الإسلام، هكذا علمنا الدين. الإسلام دين الفطرة و كلما هو مخالف للفطرة هو بالضرورة مخالف لرسالة الدين. تم اختطاف الدين ممن يدعون العلم والمعرفة فأصبحنا ندين بدين الفقهاء. كم مذهب في الإسلام ؟؟ و صوت التكفير جاهز لكل من يبدي رأيا لا يرضون عنه.

  2. يقول همام القحطاني:

    لأن مؤسسة الدين تعاني فقراً في التفكير المنطقي والعقلاني، ونادراً ما تجد عالما بالدين قادرا على استيعاب أي سؤال من خارج صندوق الموروث.

    وأعتقد أن من يؤمنون بما وراء المحسوس والمنظور هم أولى بالمبادرة إلى النظر ببصائرهم قبل أن يؤمنوا بما وراء البصر.

    ‘ كاتب اماراتي

  3. يقول ثائر:

    الشك بدء المعرفه

إشترك في قائمتنا البريدية