الباحث التونسي الدكتور حمادي الرديسي: الدولة الوطنية أتت بالاستقلال لكنها كانت كارثة على الأقليات

حاوره: رشيد خشانة
حجم الخط
1

اعتبر الباحث التونسي الدكتور حمادي الرديسي أن العرب يقفون اليوم مع الدولة الوطنية، لأنها هي التي قاومت الاستعمار وأتت بالاستقلال، لكنها كانت كارثة على الأقليات وعلى التعدد الاثني واللغوي والعرقي في العالم العربي. وشدد الرديسي الذي ألف عدة كتب فلسفية، على أنه لا مجال لإصلاح الدين إلا من داخل المنظومة الدينية، مثلما انتهى إلى ذلك الإمام محمد عبده. ورأى أننا لم نعرف الإصلاح الديني بل عرفنا إصلاحا سياسيا قاده مصلحون سياسيون، منذ القرن الماضي. ومن الكتب التي أصدرها الرديسي “الاستثناء الإسلامي” و”الإسلام المتردد” ترجمة السيد العلاني، دار الجمل 2019 وقد تحصل الكتاب على جائزة الكتاب الفلسفي ايرياج بفرنسا (2017) وجائزة الكتاب التونسي (2018). وأحدثُ مؤلفاته كتاب “ابتكار الحداثات في الإسلام” ترجمة السيد العلاني، وهو في طور الإصدار. كان لنا معه هذا الحوار وهنا نصه:

* طغى الإعجاب والانبهار على موقف المصلحين العرب لدى الاتصال بالحضارة الغربية، وكانت القضية المركزية لزعماء النهضة هي كيف “نلتحق بقطار الحداثة” مع المحافظة على خصوصية هويتنا، ألا ترى أننا لم نغادر هذه الاشكالية إلى اليوم؟

** ما حدث في القرن التاسع عشر في العالم العربي قلب تماما ابستيميا وفكريا كل معطيات العالم الإسلامي والإسلام عامة منذ العصر الوسيط، لأن أهم علاقة قامت بين الطرفين هي علاقة مزدوجة، فهناك من جانب إعجاب بالمهيمن، ومن الجانب الثاني هناك ظلم وهيمنة يمارسهما الغرب، فلأول مرة هناك إعجاب، وربما نفسر ذلك بمقولة ابن خلدون التي مفادها أن المغلوب يُقلد الغالب. وهذا الإعجاب انبنى على الشعور بقوة الغرب وهيبته، عندما نزل نابليون في مصر في 1798 فكتاب عبد الرحمن الجبرتي “عيون الآثار” خصص حوالي 150 صفحة لحملة نابليون، فقام بوصفها وصف المُعجبين.

دعني أنظر في أبعاد هذا الإعجاب، فهناك دولة عربية إسلامية تتعرض للغزو لأول مرة منذ حملة هولاكو، لكن هولاكو كان همجيا بينما نابليون لم يكن كذلك. هولاكو لم يكن أرقى من العرب علميا وفكريا، بينما كان نابليون أرقى بكثير، والدليل أنه أقام في مصر “المجمع العلمي” أثناء الحملة. وقد دخل الجبرتي إلى ذلك الفضاء وانبهر بأشياء عجيبة وصفها في كتابه وأثرت فيه. من هنا أتى الإعجاب بالغرب، فقد وجد هناك براءات اختراع ومخطوطات يحتوي بعضها على صور منها صورة النبي.

* هل هي كتب غربية؟

** لا، شرقية، فكتب الأدب الهامة أصبحت مصورة منذ القرنين الحادي عشر والثاني العاشر حيث تُصاحب النص صور مصغرة مرسومة في الكتاب، وتحتل عادة نصف أو ربع الصفحة (أولها كليلة ودمنة) وكانت بعض الكتب المصورة الأدبية منذ القرن الثالث عشر تبدأ بمدح محمد وتضع صورته. كان أول هذه الكتب قصة حب فارسية “فرقا وقلشاه” في بداية القرن الثالث عشر ثم “كتاب مرزبان نامه” المنشور في 1290 ميلادية. فصورة الرسول ظهرت في العديد من الكتب بين القرن الثالث والقرن السابع عشر الميلاديين، وقد تكون الصورة التي تحدث عنها الجبرتي مأخوذة من “السيرة النبوية” المصورة في القرن السادس بأكثر من ثماني مئة صورة (بدليل وجود نسخة منها في المكتبة الوطنية الفرنسية) وربما هي مستخرجة من “جوامع التواريخ” للوزير رشيد الدين سنة 1307 (وهو يهودي أسلم أيام المغول) وكان وزيرا للمغولي غزان خان  من سلالة هولاكو.

* نعود إلى الجبرتي، ماذا ترتب على ذلك الإعجاب؟

** شاهد الجبرتي هذه الكتب العربية القديمة المصورة، كما تابع أبحاث علماء في الكيمياء كانوا يقومون بتجارب علمية، فاندهش وكان هذا الإعجاب الكبير بالغرب، من حيث قدرته على امتلاك وسائل الحداثة، لا يتعلق بالتفوق المادي فقط، وإنما هو أيضا تفوق علمي. استمر هذا الإعجاب إلى أواخر القرن التاسع عشر، واتخذ مظاهر عديدة. وانتقلنا بعد ذلك إلى نوع آخر من العلاقة، أصبح الغرب معه مبتذلا، فما يقوله أو يفعله ليس بالغريب ولا بالعجيب. ونتذكر أنه بداية من القرن التاسع عشر كانت هناك فتاوى عن الشيكولاته (في تونس مثلا)، وأخرى عن استخدام البارود في الصيد من عدمه، أو حول ركوب القطار، وكذلك فتاوى محمد عبده حول ما إذا كان يحق لنا تناول أطعمة غير المسلمين أم لا، وارتداء البرنيطة (الطربوش).

 فهناك إذا إعجابٌ بالغرب من ناحية تبني الأفكار وتبني التقنية في الوقت نفسه. وفي هذه العلاقة المزدوجة تبين أن الإنبهار لم يكن يقتصر على التقنية فقط، مثلما يعتقد البعض، وإلا لما كان لدينا كتاب مثل “تخليص الإبريز في تلخيص باريس” لرفاعة الطهطاوي، أو “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك” لخير الدين التونسي. هذان الكتابان وغيرهما يتضمنان إعجابا بالقيم والمؤسسات الغربية، ومن تلك القيم الحرية التي اهتم بها الطهطاوي (1834) ثم نجدها في سائر كتب المصلحين، وخاصة الرحالة العرب. من هنا نرى ملامح من الموقف السائد في عصرنا الراهن، فالغرب أصبح لا يبهرنا بل كل ما يُحدثه من جديد هو سذاجة، لأنه صار مألوفا ومبتذلا. ومن المظاهر البارزة لهذا الموقف تعاطينا اليوم مع إنترنت وفيسبوك، فهذه العلاقة ليست مشابهة لموقف الطهطاوي أو خير الدين أو الجبرتي، بما حققه الغرب آنذاك من تقدم حضاري.

من الانبهار إلى الابتذال

هذه النقلة من الانبهار إلى الابتذال كانت لها نتائج هامة فالابتذال جعل علاقة العرب بالغرب أقل توترا، لكنه لم يسمح لهم من جهة أخرى، بفهم أسباب الإبداعات الجديدة لأنها باتت في متناول الجميع، فحتى النظرية السلفية تقول إن تلك الإنجازات الغربية سخرها الله لنا، فما يصنعون وما يُبدعون وما يخترعون هو نوع من التسخير في صالحنا، نقوم نحن باستهلاكه. هكذا انتقلنا من محاولة فهم لغز الغرب إلى التعاطي معه استهلاكيا، ففي القرن العشرين كتب شكيب أرسلان في 1930: “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟” فهل يوجد اليوم كتاب من هذا القبيل؟ صحيح أن أحد الباحثين التونسيين (علي المحجوبي) كتب مقارنة بين العرب واليابان في هذا الصدد. لكن لا ننسى أن اليابانيين كانوا يعتبرون الغرب متوحشا، ولما ألفوا كتبا في باب أدب الرحلات، بعد عودتهم من الغرب، كانوا ينعتون الأوروبيين بالبرابرة (الوحوش). مع ذلك انبهروا هم أيضا بالغرب، لكن نتيجة تعاطيهم مع الغرب أتت مختلفة، لأنهم وضعوا كل إمكاناتهم الفكرية والسياسية للانتقال من الانبهار إلى التبني، ثم إلى الإبداع، بينما مررنا نحن من الاعجاب إلى الاستهلاك إلى الابتذال، فكل ثلاثية مختلفة عن الأخرى.

* تقول إننا لا نختار الدخول إلى الحداثة مثلما ندخل في دين من الأديان، بل نحن مجبرون على الإذعان لمقتضياتها، ويمكن أن نسيطر على مفاتيحها حتى نصبح من الباثين لتلك الحضارة، مثلما فعل اليابانيون والصينيون، بالرغم من أنهم ليسوا أوروبيين ولا يدينون بالتوحيد، لماذا لم يسر العرب والمسلمون في هذا المسلك، الذي اعتبره زعماء النهضة، ومنهم خير الدين التونسي، أقوم المسالك للحاق بالحداثة؟

** خصصتُ فصلا من كتابي “الاستثناء الإسلامي” لتجربتي اليابان والصين، وقرأت كثيرا عن اليابان خاصة، فماذا تعلمتُ؟ أن الغرب لما دخل إلى اليابان غازيا، في الظروف نفسها تقريبا التي غزا فيها العالم العربي، خرج اليابانيون بشعار عن قواتهم عنوانه “جيش أوروبي وروح يابانية”. وقاد البلد في تلك المرحلة الإصلاحيون “الميجي” (1869-1912)، الذين أتوا بعد “الشوغون”، أي الأرستقراطية العسكرية التقليدية، وهم أشبه شيء بالانكشاريين. وفي عصر “الميجي” تم وضع أول دستور في 1889، أي بعد تونس (1861) وبعد تركيا (1875).

لكن الذين حضروا إشهاره لم يفهموا منه شيئا، وهذا ما يُقال أيضا، بنوع من التهكم، عن دستور 1961 في تونس، من أنه كُتب وقُرئ ولم يفهم بنوده أحد من حاشية الحاكم وكبار الموظفين. وبعد ذلك حصل تأليه للإمبراطور الياباني، فصار لا يغادر قصره وإنما تتنقل صورته فقط عبر المدن فيُقبلها الناس ويُعلنون الولاء لصاحبها.

من المجال الخاص إلى المجال العام

وقرأتُ لدى متخصصين في الشأن الياباني أن سر نجاهم ليس أن الحداثة استعمرت المجال الخاص بل على العكس، أي أن القيم انتقلت من المجال الخاص إلى المجال العام، ومن المنزل إلى المجتمع، وهي التي سيطرت في النهاية، وأصبحت تملك نفوذا حتى اليوم.

 في اليابان يتصرف رئيس المؤسسة كما لو أنه أبٌ. بتعبير آخر كان هناك تعايش وليس تلفيقا، وذلك لأن الاقتصاد يُدار بواسطة مبادئ الأسرة، وهذا لم نقدر عليه نحن.

* لماذا؟

** لأننا لم نسلك هذا المسلك، واتجهنا في اتجاهات أخرى، إذ أن البعض اتجه إلى استيراد التقنية بدون الفكر، والبعض الآخر يريد استيراد الفكر بدون التقنية، وبعض ثالث لفق بين هذا وذاك. وهناك أسباب أخرى عديدة تتعلق مثلا بالعلاقات الدولية، إذ كنا محل هيمنة لم نستطع الفكاك منها، بينما خاض اليابانيون عدة حروب، ونشأت رأس مالية يابانية وصلت، في حدود الثلاثينات من القرن الماضي، إلى منافسة الغرب. وهذا هو سر نجاح اليابان: فعندما يقول شكيب أرسلان لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ يُقسم النخبة إلى محافظين وإصلاحيين، وهو يسميهم مرة حداثيين، ومرة أخرى مجددين، وثالثة إصلاحيين… وهؤلاء مخطئون لأنهم إما يريدون المحافظة على تراث السلف، أو هم معجبون بالغرب، لذا فالحديث عن نحن والحداثة، والإسلام والحداثة، يقودنا إلى ثنائيات يجب أن نخرج منها لأننا لم نعد في القرن التاسع عشر، ولا في بداية العشرين. العالم حقق قفزات كبيرة، ولدينا جاليات في الغرب تعيش علاقة أخرى غير “الإسلام والغرب”.

أنموذج الهند

ماذا صنعت الهند على سبيل المثال، فبحكم وجود أكثر من 300 ديانة، وأكثر من 3000 فئة أو فرقة وعدة لغات واثنيات، فالطريقة الوحيدة لإدارة المجتمع هي القبول بالتعدد، والتخلي عن أي أرثوذكسية هندوسية، مع وجود هرمية اجتماعية بات الجميع يقبل بها، وفي الوقت نفسه، هناك تحديث يُضاهي ما حصل في الصين واليابان. وعلى الصعيد السياسي كانت الديمقرطية أسلوبا لإدارة الخلاف، فما كان للهند أن تبقى قائمة كبلد لولا الديمقراطية والتعددية. وفي كتاب “الجذور الاجتماعية للاستبداد والديمقراطية”(1966) شرح باريتان مور الحالة الهندية، متسائلا: لماذا كل الديمقراطيات ثرية عدا الهند التي بقيت فقيرة؟ ورد: هذا هو الحل الوحيد، وهو أن حجم البلد وعدد السكان يفرضان التعدد في كل المجالات، وإلا تفكك البلد إلى دويلات وإثنيات وطوائف ولقامت حروب أهلية دائمة.

* لكن المجتمعات العربية عرفت هذا النوع من التعدد، إذ تعايش فيها المسلمون مع الصابئة والأيزيديين والكلدان…

** فعلا فعندما استهدفت “القاعدة” الأيزيديين كان ذلك دليلا على أنهم عاشوا في هذه الربوع إلى اليوم، كما عاش الصائبة والشركس وغيرهم، وهذه معجزة. أعرف أن العرب اليوم مع الدولة الوطنية، لأنها هي التي قاومت الاستعمار وأتت بالاستقلال، لكنها  كانت كارثة على التعدد. ولا أتحدث هنا عن الجانب السياسي، لأننا لو نظرنا إلى هذا الجانب لوجدنا، ربما، بعض المبررات للقائلين بأن المجتمع العربي غير ناضج للديمقراطية. ما أقصده هو أن هذه الدولة كانت كارثة على الأقليات وعلى التعدد الاثني واللغوي والعرقي.

* تقصد صدام حسين مثلا؟

** لا صدام حاول المحافظة على الدولة الوطنية، غير أن علاقات الدولة الوطنية العربية مع الأقليات كانت نفعية، وظهر ذلك مثلا في تعاملها مع الأكراد. ما أقصده هو تعدد اثني وعرقي وتنوع ثقافي ولغوي. كان هذا التعايش قائما في العصر الوسيط، ثم تضعضع، ففي ظل الدولة العباسية ظل التعايش قائما، وكانت الدولة تعددية لأسباب يطول شرحها، لكن مع مجيء الأتراك ساد نظام الملة، أي أن لكل ملة نوع من الاستقلالية التنظيمية. وهكذا فإن الدولة الوطنية عندنا لم تذهب في اتجاه اليابان ولا الهند. ماذا تبقى لنا؟ بقي خيار الحزب الشيوعي الصيني، والشيوعية لا يمكن أن تنجح في مجتمع إسلامي. هو بلا شك حلٌ من الحلول وإلا ما الصين لتصل إلى المرتبة الأولى عالميا. والصين دولة امبراطورية منذ القرن الثالث قبل الميلاد، ويحكمها امبراطور، هو ممثل “السماء” على وجه الأرض (والسماء أبدية). وعرفت الصين أربع مئة إمبراطور الى سنة 1912 سنة الغائها. حتى في الأفلام الصينية يدور الصراع دائما حول كرسي الامبراطور المُتأله. والصينيون غير مؤمنين لأن الكونفشيوسية ليست دينا، بل هي نوع من الحكمة المبنية على الخضوع وأخلاقُ الوسطية، ومن ثم سهَل غياب الدين زرع الشيوعية في المجتمع.

* لعب محمد عبده دورا بارزا في جر حركات الإصلاح في مطلع القرن الماضي نحو رؤية تجديدية للإسلام، وللتحديث معا، وكان لمحاضراته في تونس والجزائر العاصمة وقسنطينة صدى مهم، فإلى أي مدى أثر في ظهور مدرسة إصلاحية مغاربية؟

** من المؤكد أن الإصلاحية المغاربية مختلفة عن الإصلاحية المشرقية. زار محمد عبده تونس مرتين وألقى فيها محاضرات، وبعد الرحلة الثانية (1903) اتجه إلى الجزائر، وعاد من هناك إلى مصر عبر إيطاليا، ومحاضراته موثقة، وهو عمل تجميعي قام به الراحل الدكتور منصف الشنوفي. وأورد الشنوفي ما قاله عبده من أنه وجد في تونس نخبة متقدمة حتى على النخبة المصرية في المجال الفكري الإصلاحي. والإصلاح أصنافٌ، ففيه الديني وفيه السياسي والأدبي. لم يكن الأمر متماثلا في المشرق والمغرب، فنحن لم نعرف الإصلاح الديني بل عرفنا إصلاحا سياسيا قاده مصلحون سياسيون، منهم خير الدين باشا والجنرال حسين وأحمد بن أبي الضياف ومحمد بيرم الخامس.

الإصلاح من الداخل أم من الخارج؟

وهؤلاء جميعا كانوا يعملون في دواليب الدولة، فهم ليسوا مصلحين من داخل المؤسسة الدينية. أما في مصر فظهرت حركة إصلاحية من داخل المؤسسة الأزهرية. وعبده لم يكن يدعو إلى الإصلاح الديني بالمفهوم الضيق للكلمة، فهو علماني وكتب رسالة إلى الأفغاني (في شهر شعبان من سنة 1300) بعدما اطلع على ما قاله الفرنسي رينان سنة 1883عن جمال الدين الأفغاني، فقد وصف رينان الأفغاني بأنه مفكر لا ديني من طراز ابن رشد وابن سينا وتدقيقا “ملحدا”. وكان رينان تابع مقالات الأفغاني في “مجلة  الحوارات” تفاعلا مع محاضرته (رينان) في جامعة السوربون عن “الإسلام والعلم” (1883)، فأعجب بها، وأجرى معه حوارا، واتفقا على أن الفلسفة أرقى من الدين. فبماذا علق عبده لما وصلت تلك المقالات إلى بيروت، وكان هو منفيا في لبنان، على إثر ثورة عرابي؟ علق عبده على طرح الأفغاني بقوله، في رسالة خاصة “نحن الآن على سنتك القويمة لا نقطع رأس الدين إلا بسيف الدين” (رسالة بتاريخ 8 شعبان 1300 هجري). وكتب ما معناه “ليس من حقك أن تفشي سرا بيني وبينك” أي ألا نتكلم بكلام مثل الذي قلته في مقالاتك. وكان الأفغاني قد قال في المقالات المذكورة أن الأديان ضد الفلسفة والفكر والعقل. ربما القليل يعرفون هذه الرسالة الغريبة. في المقابل يُتداول في الكتب العربية المدحية أن الأفغاني رد على رينان، وهذا غير صحيح. كان ذلك هو مشروع عبده، أي إصلاح الدنيا بالدين، وهو مشروع بروتستانتي قائم على الخروج من الدين بواسطة الدين. هذا هو مشروع عبده، ولذلك فهو مشروع غير أرثودكسي لا يمكن أن يُصنف من ضمن طرح أهل السنة والجماعة. وعلى عكس الحداثيين المتغربين فهم هو أن لا مجال لإصلاح الدين إلا من داخل المنظومة الدينية، وهو توجُهٌ بروتستانتي، مثلما أسلفنا، لم يُكتب له النجاح، فعبده يعبر إذا عن اليأس من إصلاح المنظومة الدينية.

المهم أن عبده كان مصلحا سلفيا، وكان يعتقد أنه بالاعتماد على الأصول وباجتهاد عقلي، يمكن أن ننخرط في الحداثة العقلانية، ونكرس تحييد الدولة عن الدين وإقامة الدولة المدنية، وقد كان فعلا يؤمن بالدولة المدنية. وهو أول من استخدم هذا المفهوم خلال السجال الذي جرى بينه وبين فرح أنطون، الذي كان مُعجبا بكتاب رينان “ابن رشد وفلسفته”، بالرغم من أن عبده كان آنذاك مفتيا. وقام بجمع الفصول التي نشرها في تلك المجادلة في كتاب “الرد على فرح أنطون” والذي يعرف بـ”الإسلام دين العلم والمدنية”. حتى الإخوان المسلمون لما حاولوا الاستفادة من عبده وقال حسن البنا “سنواصل مشروع عبده الإصلاحي”، اقتصروا على المظاهر، إذ صار الأمر متعلقا بنوع اللباس وإطلاق اللحى وصلاة الجماعة، والاستشهاد باحاديث معينة بحسب كل حالة، وهذا تقليد أعمى للماضي إذ انتقلنا معه من السلفية الإصلاحية إلى السلفية التقليدية. لكنه في حقيقة الأمر ماض مُتخيَلٌ غير موجود في الواقع. وهم يستشهدون أيضا بالأحاديث كما ذكرنا، إلا أن تدوين الحديث يعود إلى القرن الثالث الهجري.

* من أين أتى اللجوء إلى هذا التبسيط؟

** من الشروح على الشروح وتلخيص التلاخيص وهكذا وصلنا مع السلفية الإصلاحية إلى التقليد المبتذل.

* في الخلاصة ما هو موقفك من مشروع عبده؟

** لا أنخرط فيه. هو حليف لأنه مشروع جدي وصلب، على عكس المشاريع السلفية الأخرى.

* تقول إن الحداثة أبصرت النور وإلى جانبها استبداد شرقي، وهكذا انتقل الإسلام من تقليد سياسي تعددي إلى سلطوية معاصرة حسب رأيك، فهل عطل الاستبداد حركة التحديث في العالم الإسلامي أم سرَع من نسقها؟

** عملية التحديث تتم عادة إما من الأعلى أو من الأسفل. التحديث من أسفل سبق أن عرفته فرنسا وبريطانيا وأمريكا، أما التحديث من أعلى فهو ما حدث في ألمانيا واليابان. بعد ذلك، وعندما دخلنا إلى عالم تصفية الاستعمار في ستينات القرن الماضي، كانت كل التجارب التحديثية موجهة من أعلى. حتى الهند قامت بإصلاحات تحديثية في الزراعة مثلا في تلك الفترة. ونحن نعرف اليوم ثمار التحديث في فرنسا واليابان وحتى كوريا الجنوبية، التي كانت في نفس المستوى التنموي مع تونس في النصف الأول من القرن العشرين. كما لم تكن الفجوة التنموية عميقة بين بريطانيا ومصر بفضل صناعة القطن. لكن في النهاية هم نجحوا وأخفقنا نحن. لماذا؟ لأن التحديث من الأعلى فشل.

كيفية إدارة التحديث

 ويبدو أن الجواب اقتصادي اجتماعي، أي يتعلق بكيفية إدارة التحديث، فعندما تقوم بالتحديث هناك من ناحية التحديث من أعلى، وهو نوع من المأسسة أو الدولنة لكل ما هو اقتصادي واجتماعي وديني، بما يضع كل الناس في قالب محدد. ليس هناك تحديث تعددي وديمقراطي في تلك الفترة، فالتحديث الليبرالي كان في القرن التاسع عشر ثم في عصرنا هذا فقط. أما في الستينات فلم يكن البنك الدولي يمنح دولارا واحدا من أجل بناء الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. مع ذلك نجحت تونس نسبيا في التنمية الاجتماعية، وهو ما أهلها لتكون اليوم دولة ديمقراطية. فالدولنة إذا تؤدي إلى التسلط، وهي لم تؤد إلى تقدم اقتصادي، ولا إلى ديمقراطية السياسة. وكان هذا هو سبب اندلاع الثورات. صحيح أن البعض يتحدث عن أيادي خارجية، لكن هذا مناف للواقع، لأن الخارج لا يتدخل في شؤونك عندما تكون قويا. وكوريا مثلا، انتقلت بعد فترة التنمية الشاملة، إلى الديمقراطية. وأتوقع أن الصين أيضا سينتهي بها المطاف إلى انفتاح سياسي في مرحلة من المراحل. فلا يمكن لدولة أن تصبح متقدمة بهذا المستوى ولا تنفتح، وتجد حلولا إصلاحية. مأساتنا أننا لم ننجح على الواجهتين، فلا ديمقراطية ولا تنمية.

* يُؤخذ على الثورات العربية أنها بلا رؤية ولا برنامج، فما تأثير ذلك في قضية التحديث؟

** صحيح فقد قيل عنها إنها بلا طبقات ولا قيادة، وهذا صحيح، فإلى حد اليوم لا يوجد نص من الفاعلين الحقيقيين أو من المفكرين يُنظر للثورة. وفي الثورات الفرنسية والأمريكية والروسية والصينية وغيرها سبقتها حركات فكرية. أما هنا فنلحظ فقرا خلفته الأنظمة الاستبدادية. لكن هناك أيضا فقر في النخب نفسها، فالكتب التي صدرت هي عبارة عن دراسات، وأنا من هؤلاء الذين ألفوا كتبا من هذا الصنف، إلا أننا ما زلنا نتخبط في صراعات نخبوية حول هل الإسلام دين ودولة؟ وهل المرأة مكملة للرجل أم لا؟ وهل نطبق الشريعة أم لا؟ فسقطت النخبة في الصراعات الأيديولوجية حول الدين، وفي جميع التحولات في العالم لا نجد هذه الاشكالية الدينية.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فراس:

    نخبة الغرب بعد الحرب العالمية الثانية أدركت ان الاستعمار الخشن وترويض الدين لم يعد ممكناً ولا حتى مرغوبا، فحولوه الى استعمار ناعم وبقوة التنين.

إشترك في قائمتنا البريدية