الاستطراد التداخلي… قديما وحديثا!

قديما كان الاستطراد أهم ثيمة يمكن رؤيتها بوضوح في المؤلفات العربية القديمة في جميع المجالات، وبالأخص الأدبية التي ظهرت في العصرين الأموي والعباسي، واستمرت حتى ظهور أجهزة الطباعة وآلات الكتابة، وكان سبب الاستطراد الذي تميزت به تلك المؤلفات، هو أن أسلوب التعليم الذي كان سائدا يعتمد على السماع من شيوخ العلم في مجالسهم، فكان حديثهم يذهب كل مذهب أثناء شرح قضايا العلم، وكان التأليف من ثم للكتب يحمل الطريقة ذاتها حتى إن بعض المؤلفات سميت بالأمالي أي أنها كتبت بنهج الإملاء، الذي سمته الاستطراد أي التشعب في الموضوع، ونظرا لعدم وجود تخصصات علمية في ذلك الزمن، فقد كان شيوخ العلم يذكرون معلومات من علوم كثيرة في شرحهم لمسائل وقضايا أدبية أو غير ذلك، ومن أمثلة هذا النوع من المؤلفات نجد كتب الجاحظ وأحمد بن فارس والجرجانيين وابن قتيبة والسيوطي والأصمعي وابن رشيق القيرواني والقائمة تطول جدا، لكن رغم ذلك ظهر على يد الجاحظ في كتابه «البخلاء» أول خروج عن نص وسائل اكتساب المعرفة الشهيرتين وهما مجالس العلماء وقراءة كتب الوراقين، اللتان امتازتا بأسلوب الاستطراد وتمثلت وسيلة الجاحظ الجديدة بالنزول إلى غمار العامة، واكتساب المعرفة من أفواههم وأفعالهم، فدرس الجاحظ سلوكيات الناس وكتب عن دوافعهم ونزعاتهم، وقام بتحليل تصرفاتهم دون إغفال أمر المتعة في ما يقدمه ويسرده من تفاصيل حياة الناس في عصره..
هذا الاستطراد في فن الكتابة والتأليف أصبح لاحقا يسمى بـ«السرد التداخلي» وهو كما تعرفه فاطمة رضا: مصطلح أدبي أمريكي يعني الانتقال العشوائي من موضوع إلى آخر، وهو ضمن ألوان القصة القصيرة والرواية الأدبية، حيث يقوم فيه الكاتب بالتعريج على عدة مواضيع قصصية سردية ضمن قالب موضوعي واحد، بحيث يجذب النص القارئ من خلال الدخول والخروج من مواضيع مختلفة بشكل مفاجئ، ودون ربط واستخدام مفردات وجمل مجتزأة تثير القارئ، حيث يسرق النص وقت القارئ وتفكيره ولا يستطيع إلا أن يقرأ الموضوع كاملاً دون توقف». وهذه التقنية أو هذا النوع من الأبنية السردية يشبه ما يسمى بـ«البناء السردي الهوليوودي السينمائي» الذي يتضمن أكثر من ذروة للقصة ويقتضي أكثر من عقدة في القصة السينمائية الواحدة.
أما في الفن المسرحي فيتوافق ما يسمى بالارتجال والخروج عن النص مع معنى ما سميته بالاستطراد التداخلي، ويمكن أن نسميه أيضا استطرادا تداخليا تمثيليا، ويحدث عادة عندما ينسى الممثل النص الذي عليه أن يقوله، فيذهب إلى الاستطراد التمثيلي الذي يستعين فيه بموهبته فقط ليتجاوز نسيانه للمقطع الذي عليه أن يقوله ثم لا يلبث أن يعود إلى النص الأصلي، ويستمر أحيانا هذا الاستطراد في أكثر من موضع طيلة العرض المسرحي وهناك نماذج فنية مسرحية كثيرة كانت مقاطع الاستطراد فيها سببا في شهرتها، كما أن بعضا من المخرجين استساغها كثيرا لطرافتها وتفاعل الجمهور معها، كما اعتمدها بشكل رسمي ضمن حيثيات نص العرض ومحتواه، كما أنها اشتهرت أكثر من الأعمال المسرحية تلك ذاتها في أحيان كثيرة. وفي سياقات أخرى نجد ان آلية عمل تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتخصصة في البحث وحصر المعلومات والبيانات على الشبكة العنكبوتية، تمتاز بسمة «الاستطراد التداخلي» كأهم ثيمة يمكن لمسها في نتائج آليتها البحثية، حيث تتداخل تداعيات النتائج من كل الأنواع والفروع العلمية والمعرفية في جملة النتائج التي تقدمها تلك التطبيقات البحثية، وهي تتمدد وتتسع كل يوم مع اتساع المحتوى المعرفي على الشبكة.
ومن كل ذلك نجد أن ثيمة الاستطراد التداخلي العصرية في الأعمال الفنية والأدبية وفي آلية عمل تطبيقات الذكاء الاصطناعي البحثية، تعتبر حالة بعث للسمة القديمة التي سادت في المؤلفات القديمة، وهي ثيمة الاستطراد في هيئة محاكاة وتصور حضاري جديد، وطالما أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي هي حالة محاكاة للعقل البشري بكل تفاصيله، وامتداد لطريقة عمله سيكون الاستطراد التداخلي امتيازا عقليا إنسانيا وهبة ربانية للبشرية وليس لأحد سواها، وتشبه هذه الثيمة في أصالتها أصالة الكثير من الغرائز والنزعات في النفس البشرية، وطالما أنها نزعة أصيلة فلا يمكن التنكر لها في أي عصر، أو ادعاء توجهات أخرى خارج سياقاتها سواء على الصعيد العلمي المعرفي أو على صعيد الحياة الاجتماعية وما يدور في فلكها.

كاتب يمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية