الإجتماعية السوريالية

حجم الخط
2

السوريالية مصطلح فرنسي ترجمته الحرفية ‘فوق الواقع’ او ما بعد الواقع أو ما يتجاوز الواقع إذا شئتم. وهي مدرسة فرنسية حديثة في عالم الفنون تعبّر عن الأشياء بأشكال تتجاوز النظام والمنطق. وقد عمد السورياليون في أعمالهم الفنية، سواء في الرسوم او الأدب ، إلى استخدام الأشياء الواقعية كرموز للتعبير عن أحلامهم و الارتقاء بالأشكال الطبيعية إلى ما فوق الواقع المرئي.
مذهب فني خاص انتشر خصيصاً في أواخر الربع الأول من القرن الماضي. المهم بالموضوع أن السوريالية تحيل فور سماعها إلى العالم غير الواقعي وغير المنظم، إلى عالم الجنون.
عجالتي اليوم ، وحتى لا يساء فهمي، لا تهدف إلى شرح المدرسة السوريالية التي لها شرّاحها وممثلوها المعروفون المثبّتون. ولا أقصد أن اتناول فيها أيا من أعمال السورياليين، المغمورين منهم أم المعروفين. فقط وددت أن أشير إلى أن المدرسة هذه اقتصرت أعمالها بالغرب على الحقول الفنية فيما نستمتع نحن غالباً بمزاياها في حياتنا اليومية وبدون أي كلفة مادية لاقتنائها. لا أدري حقاً إذا كان يمكن اعتبار ذلك حظاّ أم لعنة. على أي حال، وأيا كان موقفنا ورأينا من ذلك، فنحن، العرب، نملك امتياز حضور فنون السوريالية ومجيئها إلينا بدل ان نذهب إليها.
السبت الماضي حظي اللبنانيون بمشهد مصالحة عرضته قنوات التلفزة جميعها تقريباً بالنظر لأهمية المتصالحين، ذلك أن المصالحة ليست جديدة فموضوعها مكرّر حدّ المللل. ففي 17/05/2014 تماماً اجتمع ممثلو طائفتين لبنانيتين من الجبل، وبحضور ومتابعة وتصوير جميع التلفزيونات المحلية والإقليمية والعالمية، لعقد مصالحة يسمح بموجبها الطرف الأول، الدرزي، بعودة أهالي الطرف الثاني، المسيحي، إلى بيوته بعد ثلاثين عاماً على تهجيره الحبّي من أرضه وبلدته، وبعد عقد ونصف على نهاية آخر حرب أهلية شهدتها المنطقة. هذا وقد تشرّفت عملية المصالحة بحضور رئيس الجمهورية اللبنانية فخامة الإستاذ ‘العماد ميشال عون’، عفواً عفواً، العماد ميشال سليمان. ترأس الجانب الدرزي فيها الأستاذ وليد بك جنبلاط مقابل الحضور اللافت لرئيس الكنيسة المارونية البطريرك مار بطرس بشارة الراعي، بطريرك انطاكيا وسائر المشرق. كما حضر عدد من أعيان الجانبين والعديد من المشايخ والكهنة، ناهيك عن كبار الموظفين الذين يمثلون طائفتيهما بالدولة.
هذا وقد استلم كل مسيحي عائد الى بيته مفتاح منزله بالإضافة إلى مبلغٍ من المال وقدره 20 ألف دولار بالتمام والكمال لغرض الترميم. فيما نال كل درزي شاغلٍ للمنزل، بغياب صاحبه طبعاً، مبلغاً وقدره خمسة آلاف دولار تعويضاً وشكراً على قبوله بتسليم مفاتيح المنزل المحتل. وجرى احتفالٌ كبيرُ بالمناسبة، تخلله عزف موسيقى وطنية، كما تكلم خلاله الزعماء من الطرفين فاستغلا المناسبة ليبدي كل منهما إعجابه وفخره بالآخر وبأريحيته وكرمه وذكائه وحكمته وبدوره الخارق في حفظ توازن البلاد. وقد أشاد فخامة الرئيس بدور الزعيم الدرزي إذ تأكد له، بالتحليل الأخير، أن البيك يملك فعلا ميزة بيضة قبّان استقرار البلاد كما قال.
قد يظن القاريء الغريب أن هناك مبالغة بالوصف سعياً ربما وراء هدف أدبي أو انسياقاً مع جو الفرح. على العكس من ذلك فقد يكون من الصعب على أي سوريالي أن ينتج ما انتجه هذا المشهد من غرائبية وخروج عن العصر والأيام ومفاهيم الدول والمؤسسات وقيم الوطن والمواطن. السوريالية في المشهد أن مواده واقعية وحقيقية. فكل شيء ابتداء من التهجير والتطهير الطائفي ذاته وحتى إحتفالية المصالحة مروراً بالشخوص المشاركة كلها وقائع لا يرقى إليها أي شك. حتى اللباس كان جزءا من المصالحة. فالبيك، رئيس الدروز، ارتدى، للمناسبة، بدلة على الطراز الغربي تتوسطها ربطة عنق غربية. والبطريرك لسائر إنطاكيا يلبس ثوبه الديني المكلّل باللون الأحمر الأرجواني. فخامة رئيس الجمهورية، المؤتمن على الدستور، جاء هو ببدلة رسمية لرعاية مصالحة بسيطة بين طائفتين من طوائف جمهوريته الدستورية.
كان يوماً مباركاً هذا اليوم الذي أثبت، كما قيل خلال المناسبة، أثبت أن لبنان بحاجة إلى جميع أجنحته. انتبه هنا للكلمة جيداً. فمنذ قليل كان للبنان، أسوة بجميع الطيور، جناحان وحسب. أما اليوم ومع مرور الزمن فقد نبتت له أجنحة اخرى وصارت كلها ضرورة. كان لبنان صورة الطير بجناحين، لاحظ السوريالية، فصار قبّوطاً يملك من الأجنحة ما تتكرّم به القريحة السوريالية. وعلى فكرة فالأجنحة فاضت عن حاجة لبنان وها هي تخفق في دنيا العرب من العراق الى السودان الى ليبيا واليمن فمصر وسوريا. أنى ذهبت تقع على الأجنحة.
الإحتفال، وحتى لا يفوتكم شيء، جرى على أرض البلدة ذاتها حيث حصل التهجير. كان ذلك منذ ثلاثين عاماً. بعدها انتقل المسؤولون إلى قصر المختارة، المقر التاريخي لزعامة رئيس الدروز، حيث تناولوا طعام الغذاء تعبيراً عن المحبة وتعزيزاً لأواصر الأخوة. ‘تمالحوا’ فيما بينهم، اي أكلوا الخبز والملح سوية كما تقول الأسطورة السوريالية في احدى سيرها العربية الأصيلة. كل ذلك في أجواء من الفرح العميم والبهجة بالعودة، كما ردد الصحافيون الذين تسنى لهم الحضور والمشاركة.
لكن لماذا حصل التهجير بالأساس؟ ماذا كان ذنب المسيحيين في الجبل خصوصاً وأنه قد حصل على إثر اغتيال زعيم الدروز يومها، والد الزعيم الحالي، في أجواء خلافات مع الطرف السوري؟ ما هي الرسالة التي أراد الدروز يومها توجيهها من خلال هذا التطهير؟ ما هي مصلحة الدرزي الأقلوي، الذي تشهد عصبيته تراجعاً عددياً هائلاً، في تخفيف عدد سكان أوسع المناطق الجغرافية مساحة في لبنان؟ ماذا كانت مصلحة الطائفة في تفريغ منطقة واسعة في الوقت ذاته الذي تتعرض فيه لضغط سكاني ديموغرافي هائل من حدودها الجنوبية؟ هل كان مجرد ثأر قبلي لانتصار الموارنة ذات قرن سابق؟
السوريالية عندنا ليست مجانية كما قلت خطأ في البداية. الدخول فيها مكلف جداً. وليس ما نعيشه حالياً في شرق الأمة العربية كما في مغربها إلا فقط بعض أثمانه.

عناية جابر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أبو جمال:

    أعترف أنني اطلعت من خلال المقال على مشهد سوريالي بامتياز : فاين كانت الدولة و عدالتها طيلة ثلاثة عقود ؟ و كيف يكافأ من ارتكب عمليات التطهير العرقي ؟ و كيف يتم التنويه بقادة التطهير العرقي وبحضور رموز الدولة و الدستور ؟

  2. يقول Hassan:

    سوريالية لبنانية بخيال لبناني. والعرب في الحقيقة هم أوسع خيالا.

إشترك في قائمتنا البريدية