الأمّة الألمانية: فارق «الذنب الجَمْعي» وجلد الذات

حجم الخط
0

حاضر ألمانيا، الحكم السياسي والمجتمع العريض على حدّ سواء، لا يعدم مناسبات متعاقبة تعيد التشديد على، وردّ الذاكرة إلى، مصطلح «الذَنْب الجَمْعي» Kollektivschuld؛ الذي تصنفه المعاجم، المبسطة الشعبية منها أو المعقدة المختصة، تحت باب التكفير الذاتي عن فظائع الرايخ الثالث أثناء الحرب العالمية الثانية عموماً، وآثام الهولوكوست بحقّ اليهود خصوصاً. وإذا كانت أحدث المناسبات الرئيسية هي الدعوى، التاريخية والفريدة والشجاعة، التي رفعتها حكومة نيكاراغوا ضدّ ألمانيا بتهمة تسهيل حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، عن طريق زيادة تصدير الأسلحة إلى دولة الاحتلال بمعدّل 10 أضعاف خلال أشهر العدوان تحديداً؛ فإنّ سلسلة من المناسبات الفرعية سبق أن أعادت المصطلح إلى الصدارة، من خلال مصادرة حرّيات تعبير عامة مناهضة للعدوان ومساندة للشعب الفلسطيني، لم تمارسها السلطات الحكومية الألمانية وحدها، بل انخرطت فيها أيضاً جمهرة من هيئات وقطاعات ومنظمات المجتمع المدني المعنية بالفكر والثقافة والاجتماع السياسي.
وكما هو معروف، كان اللاهوتي والكاهن اللوثري مارتن نيموللر قد دشّن، في سنة 1945 وعبر الوثيقة التي عُرفت باسم «إعلان شتوتغارت حول الذنب» ما ارتقى إلى مستوى جَلْد الذات بتوقيع حفنة من ممثلي الكنيسة البروتستانتية الألمانية؛ هو الذي ساند صعود أدولف هتلر في مطلع ثلاثينيات القرن المنصرم، وأعرب عن عداء صريح للسامية. إلى جانب صياغة الإعلان، كتب نيموللر القصيدة الشهيرة (التي يحفظها متحف الهولوكوست الأمريكي) والتي تقول: «في البدء استهدفوا الاشتراكيين، فلم أتكلم ــ لأني لم أكن اشتراكياً. ثمّ استهدفوا ممثلي النقابات، فلم أتكلم ــ لأني لم أكن نقابياً. ثمّ استهدفوا اليهود، فلم أتكلم ــ لأني لم أكن يهودياً. ثمّ أتوا يستهدفوني ــ فلم يتبقّ أحد يتكلم دفاعاً عني».

يظلّ موقف الأوساط الصهيونية من الأمّة الألمانية قياسياً وكلاسيكياً ومشوباً بالكثير من التساؤلات

هذه حال من الإقرار بالذنب، الفردي أو الجَمْعي، وجدت، على الدوام في الواقع، من يتفهمها أو يبررها أو حتى يبيح توظيفها لخدمة أغراض شتى، سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وإيديولوجية؛ كما وجدت، في معدلات أقلّ مستوى وأضيق نطاقاً وأخفض صوتاً، مَن يرفضها جملة وتفصيلاً لأنها إنما تعمم الذنب على نحو مطلق، وبالتالي تُسقط المسؤولية الشخصية والفردية عن طريق إلقائها عشوائياً على عاتق الجميع. لكنّ كلا الموقفَين، على تلاوينهما العديدة المتشابكة والمتغايرة، خيار مختلف تماماً عن كتلة مواقف ثالثة تشتغل على تأثيم الأمّة الألمانية بأسرها، كابراً عن كابر، وعلى غرار ما فعل الحلفاء بعد سقوط الرايخ الثالث حين وزّعوا ملصقات تُظهر فظائع الهولوكوست وتحتها عبارة «هذا ذنبكم!».
السياقات الراهنة من تواطؤ الحكومة الألمانية، وقطاعات واسعة من ممثلي المجتمع المدني، مع حرب الإبادة الإسرائيلية، وما يتقاطع معها من زجّ جَمْعي للأمّة الألمانية في عقدة الذنب؛ يقتضي استعادة واقعة شهيرة طُرحت، في ثناياها ومن حولها، أسئلة عجيبة المنطق، تسير هكذا على سبيل الأمثلة: ما الذي يضير في قيام جهات ألمانية مختلفة، أكاديمية وبحثية في المقام الأوّل، بتكريم الضحايا الألمان (من المدنيين، العزّل، الأبرياء) الذين سقطوا خلال سنوات الحرب العالمية الثانية؟ وأيّ إثم في تأسيس مركز توثيق ومتحف تاريخي، لحفظ تفاصيل تلك الوقائع الرهيبة، وجعلها في متناول الذاكرة الجَمْعية، ذاتها، المصابة بالإثم؟ ألا يندرج إنجاز مشروع كهذا في صلب الحقوق الوطنية لأيّ شعب من شعوب العالم، بل يتوجب أن يكون جزءاً لا يتجزأ من واجبات الشعوب تجاه تاريخها؟
النفي كان إجابة أوساط صهيونية عالمية، أطلقت حملة أخرى شعواء ضدّ المشروع، استهدفت بصفة خاصة السيدة إريكا شتاينباخ، السياسية الألمانية البارزة ورئيسة «رابطة المطرودين»؛ التي تُعنى بشؤون ملايين المطرودين من ديارهم، ليس في ألمانيا وحدها بل في مختلف أرجاء العالم. ولم يكن عسيراً أن يتكهن المرء بأنّ السبب في الغضبة الصهيونية تلك لم يكن أيّ اعتبار آخر سوى الحكاية القديمة إياها: احتكار عقدة الضحية الكونية، والانفراد بها تماماً، وتهميش كلّ وأيّ ضحية أخرى، بل الحطّ من عذاباتها إنْ أمكن.
قرأنا، في مثال أوّل عالي الدلالات، ما كتبه المؤرّخ الإسرائيلي جلعاد مرغاليت: «إنّ هدف الأوساط الألمانية المحافظة هو صياغة يوم ذكرى لإحياء الفترة النازية، لكنها ذكرى منعتقة من الرأي الاتهامي الذي تحمله الضحية اليهودية. ورغم أنّ الإجراء لا يرقى إلى مصافّ إنكار الهولوكوست، إلا أنه بلا ريب يساوي بين الهولوكوست وعمليات الاضطهاد التي تعرّض لها الألمان». ومرغاليت هذا (وهو في عداد المؤرّخين المعتدلين!) يختار لمقاله عنواناً استفزازياً هو «ازدياد عذابات الألمان» ويضع كلمة عذابات بين أهلّة، على سبيل التشكيك في صحّة معنى العذاب، وربما صحّة وجود عذابات ألمانية في الأساس!
في جانبها الإحصائي الصلب، كانت الوقائع التاريخية تقول إنّ الأعداد التالية من المواطنين ذوي الأصول الألمانية طُردوا، بعد الحرب العالمية الثانية، من البلدان التي كانوا يقيمون فيها ويتمتعون بجنسيتها: 2 إلى 3.5 مليون من بولندا، 2.3 مليون من تشيكوسلوفاكيا، قرابة مليون من الاتحاد السوفييتي، 400 ألف من هنغاريا، 300 ألف من رومانيا، إضافة إلى قرابة مليون من مختلف مناطق أوروبا الشرقية. هذه هي الأعداد في تقديراتها المخفّضة، المتحفظة لهذا الاعتبار أو ذاك، وأمّا العدد الذي تسوقه رابطة المبعدين فهو… 15 مليون ألماني.
ألا يستحقّ هؤلاء الذكرى، كي لا يتحدّث المرء عن التعويضات وردّ الاعتبار، كما هي حال اليهود؟ لا يتفق مرغاليت مع هذه البديهة البسيطة، لأنه دائم الارتياب في نوايا شتاينباخ، تساوره شكوك بأنها إنما تستهدف إضعاف ذاكرة الهولوكوست أكثر من تقوية ذاكرة الضحية الألمانية، وذلك رغم أنّ مشروع مركز مناهضة الطرد يضع اليهود في رأس ضحايا هذه الممارسة غير الإنسانية. كذلك يتوقف مرغاليت بصفة خاصة عند موقف شتاينباخ «المتطرّف» حسب تعبيره، القائل بأنّ عمليات طرد الألمان جري التخطيط لها قبل الحرب، ولا يمكن النظر إليها كجرائم ناجمة عن ضرورات محاربة النازية، بل كجرائم في حدّ ذاتها. أكثر من هذا، طبقاً لخطّ السجال الذي يعتمده، تزعم شتاينباخ امتلاك أدلة قاطعة على أنّ 2.5 مليون من الألمان المطرودين من ديارهم، «قضوا تحت التعذيب أو التشغيل الإجباري أو الاغتصاب»… فكيف تجاسرت على سَوْق أرقام تداني نصف أرقام ضحايا الهولوكوست من اليهود!
جانب آخر من المأساة كان يخصّ القصف الوحشي الذي مارسه الحلفاء ضدّ المدن والبلدات والبنى التحتية الألمانية، وكأنهم كانوا يُنزلون العقاب بالشعب الألماني نفسه، بعد انهيار الرايخ الثالث. وتلك معركة لم تنفرد بإثارتها «رابطة المبعدين» ومن خلفها الأوساط المحافظة الألمانية كما زعم مرغاليت، بل انخرط في حملاتها رجال يساريون من أمثال غونتر غراس الروائي الكبير وحامل جائزة نوبل للأدب، وساسة ليبراليون أمثال هانز ديتريش غينشر، وكتّاب على شاكلة يورغي فردريش الذي وضع كتاباً مصوّراً عن قصف ألمانيا اعتبر فيه أنه لا يوجد فارق أخلاقي بين ونستون تشرشل وأدولف هتلر.
وفي المحصّلة يظلّ موقف الأوساط الصهيونية من الأمّة الألمانية قياسياً وكلاسيكياً ومشوباً بالكثير من التساؤلات، منذ أن طُرح السؤال الكبير: «كيف أتيح لأمّة عظيمة أنجبت غوته وشيللر أن تنفّذ تلك المجازر؟». الجانب الآخر المكمّل لهذه الحال أن يعمد ألمان كُثر إلى اجترار القياسات الصهيونية الركيكة ذاتها، لكن بقصد استعذاب جلد الذات وتعميم الإحساس الجَمْعي بالذنب.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية