الأطفال شخصيات رئيسية في السينما الفلسطينية

حجم الخط
0

بالنظر إلى عموم السينما الفلسطينية، على طول مسيرتها، يمكن الخروج بمواضيع رئيسية وثانوية، بميول نحو قصص بعينها، بمشاهد وعلامات بصرية تتكرّر، لكن كذلك بحضور ملحّ للأطفال، كشخصيات رئيسية أو ثانوية، وبحالات تصل إلى التمرّد.
للوهلة الأولى، قد لا يرى أحدنا سبباً استثنائياً في أن يكون الأطفال حاضرين بشكل واضح في سينما هي سياسية بالدرجة الأولى كالفلسطينية، بخلاف سينما اجتماعية بالدرجة الأولى، كالإيرانية، حيث يكثر الأطفال ضمن قصص محلّية وعائلية. هنا، في السينما الفلسطينية، حالة سياسية ملحّة ومواجهة بشتى أشكالها مع الاحتلال الإسرائيلي، ما يمكن أن يرجّح إزاحة الطفولة عن المشهد السينمائي الأقرب، لطابعه السياسي، للكبار لا الصغار. لكنه ليس حال السينما الفلسطينية التي استحضرت الأطفال كشخصيات ثانوية ورئيسية بشكل لافت، ما أتاح التحليلَ لهذه الظاهرة والاستنتاج منها.
بدأ حضور الأطفال في أوّل الأفلام الروائية للسينما الفلسطينية، «المخدوعون» لتوفيق صالح، وفيه الطفل/الفتى، أحد اللاجئين الثلاثة الذين ماتوا في الخزّان، تبعاً لرواية غسان كنفاني. من بعده، كان للأطفال حضور أساسي في فيلمَي ميشيل خليفي، «عرس الجليل» و»حكاية الجواهر الثلاث» في الأول شخصيات ثانوية وفي الأخير رئيسية، وهذا الأخير من أبرز الأفلام التي تمحورت حول الأطفال وخيالاتهم وحيواتهم وتحديداً في قطاع غزة. حضر الأطفال كذلك في فيلمي رشيد مشهراوي «حتى إشعار آخر» و»حيفا» حيث يحوم الأطفال في معظم المشاهد، تحديداً في الأول.
في هذه الأفلام، وهي محور سينما التسعينيات، «سينما أوسلو» أتى حضور الأطفال ضمن السياق السياسي للقضية الفلسطينية، ما بعد انتفاضة الحجارة ومن بعدها اتفاقيات أوسلو، لتكون الاتفاقيات، بعد الأمل الذي حملته الانتفاضة، خيبةً كبرى للفلسطينيين وعلى طول العقد بأكمله. هذه الخيبة ومعها اليأس، جرّا رغبةً في أملٍ بغدٍ أفضل من العجز الراهن وبؤسه، في محوٍ للهوية الفلسطينية ومنحٍ للأراضي والحقوق الفلسطينية إلى الاحتلال، كما تجلى في الاتفاقيات. ضمن هذه الأجواء، كان الحضور الطفولي في السينما أملاً هشّاً ومتردّداً بتغييرٍ ما، تطلّعاً إلى غدٍ يكون بهؤلاء الأطفال، ضمن دولة موعودة لا أسس لها، هو كذلك نوع من الهروب من واقع الضعيف المستضعَف، حال السلطة الوليدة في حينها، كما هو حال أفلام أوسلو. لاحقاً، في سينما ما بعد عام 2000، سيحضر الأطفال دائماً لكن بتضمينات مختلفة عمّا حملته سينما أوسلو من يأس، ستأتي انتفاضة الأقصى بآمال جديد للطفولة في هذه السينما.
لا شكّ في أن سينما ما قبل عام 2000، وإن تفاوتت ضمن مرحلتين هما سينما الثورة وسينما ما بعدها، أسّست لثيمات وقصص وشخصيات طغت في سينما المرحلة التالية وتفرّعت عنها، وإن كانت هذه الأخيرة منقطعة عمّا سبقها، شكلاً ومضموناً. لكن، علامات وميزات أساسية لعموم السينما الفلسطينية امتدت إليها متخذة أشكالاً جديدة منسجمة مع المرحلة السياسية والاجتماعية والثقافية للحالة الفلسطينية ما بعد عام 2000، مع تنويع في المقاربات ووفرة في الإنتاجات. من بين هذه الامتدادات والانسجامات حضور الأطفال في سينما الفلسطينيين.

للطفل دور أساسي في فيلم «عطش» لتوفيق أبو وائل، بل موقع موازٍ لذكورية الأب التي سيحتلّها الولد. للطفلة مكانة في الظل في فيلم «عيد ميلاد ليلى» لرشيد مشهراوي، حضورها بصرياً محدود لكنه سردي من خلال والدها، ممتدٌّ على طول الفيلم. للابن في «أمريكا» لشيرين دعيبس موقع المساند للأم في هجرتهما إلى الولايات المتحدة، وفي صعوبات اندماجهما هناك. في العقد الأول من الألفية، تقلّصت نسبة حضور الأطفال في السينما الروائية الفلسطينية وكان أبرزها في هذه الثلاثة، بتنويع وتفاوت بين حضور وآخر، وفي تخلٍّ تام عن رمزية الأمل والرغبة في الخروج من البؤس الراهن، كما كان حال أفلام ما قبل عام 2000، إذ كان الأطفال والفتيان هنا شخصيات لها دورها في راهن القصة بمعزل عن تحميلها دلالات مستقبلية، لكن هذه الأدوار كانت تائهة في غاياتها. يمكن، مثلاً، التخلي عنها بتعديلات درامية في النَّص، كأنّ دخول الطفولة في أفلام العقد الأول من الألفية كان تائهاً أو باحثاً عن هوية ما، عن تمثيل ما، في محاولة للإفلات من طفولة الأفلام السابقة، بصفتها تعبيراً عن أمل هامشي في وطأة واقع بائس. وهو ما ينسجم مع حالة الضياع التي عاشها الفلسطينيون بعد خنق الانتفاضة وتشديد تعاون السلطة الفلسطينية، أمنياً تحديداً، مع الاحتلال، والاقتتال في قطاع غزة.
الأفلام المدرجة هنا ليست الوحيدة في تصوير أطفال ضمن قصصها، إنما الأبرز، حيث يكون للأطفال حضور أقوى منه في غيرها ضمن دراما الفيلم، وبذلك، فإن واحدا من أفضل الأفلام التي تمحورت حول الأطفال، وأكثرها حساسية، فيلم «لما شفتك» لآن ماري جاسر، وكان ببطولة رئيسية لطفل من جيل الثورة الفلسطينية. لا يخرج الطفل هنا من بؤس راهن، محاولاً تفاديه، بل يتمرد عليه بانضمامه إلى معسكرات الثوار على الحدود مع فلسطين، باقي الشخصيات تتبعه ضمن سير القصة.
في فيلم تالٍ كذلك كان للطفلة فيه نفَس تمردي مقاوم، في «عيون الحرامية» لنجوى نجار، تكره الأشرار صراحةً وتفرض نفسها في محيطها. في الفيلمين كان للطفولة مكانة المتمرد والمتمردة، رفضاً لراهن يسوده الاحتلال بأشكاله وتبعاته، السياسية والاجتماعية. هو تمرّد منقطع عن تصوير الأطفال في الأفلام السابقة.
فيلم ثالث لحقهما بتصوير لفتاة وفتى في محاولة لتمردٍ اجتماعي هو «فيلا توما» لسهى عراف. وفيلم رابع لمخرجة امرأة، رابعة، واصل تصوير الأطفال والفتيان والفتيات كشخصيات رئيسية أو ثانوية، في نقل لسياق مختلف وبتنويع في تصوير الطفولة، هو «3000 ليلة» لمي مصري، وفيه تلد الأم طفلها الذي سيمضي أعوامه الأولى في السجن. هنا، كانت الطفولة أقرب إلى ما كانت عليه في أفلام التسعينيات، أملاً في الخروج من واقع بائس ومغلق ومعتم.
من بعدها، وكما في فيلم «عيد ميلاد ليلى» تناول فيلم «200 متر» لأمين نايفة الطفولة كمسبب للأحداث في ظلها، دون دور رئيسي، بل حضرت من خلال الأب المتنقل على طول الفيلم، كذلك كما في فيلم مشهراوي، للوصول أخيراً إلى أطفاله. من بعده أتى «فرحة» لدارين سلام، الذي استعاد الشخصية الطفولية المتمردة كما صورتها جاسر ونجّار وعرّاف تحديداً، لتكون الطفولة في أكثر حالاتها تفاؤلاً وإرادة وإيماناً في القدرة على التمرد، في أفلام نسائية وفي أدوار رئيسية، وتكون في أفلام المخرجين الرجال أقرب إلى موضوع ثانوي أو تعبير راهن عن بؤس دون التمرد عليه بالضرورة.
في هذا العقد، الأخير، حضر الأطفال بشكل مكثّف، فإضافة إلى الفيلمين الأخيرين، نجد الطفولة ضمن مواقع متفاوتة في أهميتها درامياً، في أفلام هي «حمى البحر المتوسط» لمها حاج، وفيه اتخذ الفيلم عنوانه من مرض الابن، وإن كان له ولأخته حضور ثانوي مقابل بطولة الأب. يليه «عَلم» لفراس خوري، ثم «بيت في القدس» لمؤيد عليان، و»الأستاذ» لفرح نابلسي، وفي هذا الأخير استعادة لدور الطفل أو الفتى المتمرّد المقاوم.
للطفولة في السينما الفلسطينية ترميزات متفاوتة، لكنها بدأت بشكلها اليائس، حيث لا يتخلى الأطفال عن أحلامهم لكن دون التقدّم درامياً من أجل تحقيقها، هم على هامش عالم للكبار وقوانينهم، وضمن مجتمع محكوم من الاحتلال، في يأس يتشاركه معهم أهلهم، الشخصيات الرئيسية للأفلام. لكن، بدأت من بعدها تظهر أفلام بمقاربات جديدة للطفولة، هي متمرّدة على واقع تعيشه دون أن تعي، بالضرورة، السياق السياسي لها. في «لما شفتك» يصرّ الولد على العودة إلى فلسطين متخطياً الحدود، دون أيّ وعي يمكن أن يحمله الكبار يحول بينه وبين تحقيق رغبته التي يصر، بالعناد الطفولي، عليها، وفي «عيون الحرامية» ترفض الفتاة اضطهاداً مجتمعياً وتنمّراً عليها، تتمرّد كما لم تتمرد طفلة في السينما الفلسطينية. تتواتر وتتفاوت حالات التمرد لدى الطفولة في السينما الفلسطينية ما بعد عام 2000، لكنها تصل إلى مستوى جديد يدخل فيه الولد عالمَ المقاومة المنظّمة في «الأستاذ» من بعد أن تكسر البنت في «فرحة» الباب وتتحرّر، بالمسدّس.
من كل ذلك، إن كان لهذه السينما أن تشير إلى فكرة واحدة، في عالم الطفولة، فهي أنّ الثورة والمقاومة لدى الأطفال في السينما الفلسطينية، هي سمة نسائية بامتياز، هي أفلام لمخرجات نساء صوّرنَ من الشخصية الطفولية في أفلامهن السمةَ الفلسطينية الأبرز فيها، التمرّد.

كاتب فلسطيني سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية