الأستاذ الجامعي: علمٌ لا ينفع

حجم الخط
0

كثيرا ما يدور في ذهني سؤال ما دور الأستاذ الجامعي، وهو الذي يتعامل مع أجيالٍ من الشباب اليافعين الذين يفوقونه قدرةً على مواكبة العصر؟ هل أنّ دوره أن يكون قناةً يُمرّر لهم معرفةً وعلما تحصّل عليه بالجهد الجهيد، أو أنّ دوره أن يعطيهم ما قاله السابقون في مجال تخصصه، أو دوره أن ينقل لهم هواجسه المعرفية، أو أنّ دوره أن يعهد لهم بخلاصة تجربته العلميّة، أو أنّ دوره أن يهديهم إلى السؤال وإلى حيرة المعرفة؟
واقع التعليم العالي في الوطن العربي متخلف جدا، بل يدعو إلى البؤس والألم، لماذا؟ لأنّ الأستاذ الجامعيّ ما زال يعتقد أنّه الوصيّ على المعرفة، والطالب في الغالب العام يراه مصدر درجات تُمنَح له فقط، فمتى يُمكن أن ننهض من هذا السبات الدوغمائي الذي يُدرك فيه الأستاذ الجامعي أنّه إن لم يكن مؤطّرا منهجيا ومحفزا على طلب المعرفة، فإنّ دوره ينحصر في منح الدرجات لا في منح العلم.
هناك تجربتان دوما كنت أودّ أن أجد المناسبة للحديث فيهما، انطلاقا من تجربتي التدريسية في جامعات سلطنة عمان تحديدا، وهما تدريس اللغة العربية من حيث هي مقرّر عامّ لكل طلبة الجامعة، وتدريس اللغة العربية مدخلا إلى كليّة الآداب والعلوم الاجتماعية. سؤال لا يريده مدرسو اللغة العربية، ما الفائدة من تدريس مسائل في النحو درسها الطالب من السنة الثالثة ابتدائي وإلى حدود السنوات الأخيرة من تعليمه في الثانوية، في مقرّر لطلبة الجامعة هو متطلّب أساسيّ يدرسه طالب الهندسة وطالب الطب وطالب العلوم، فيجد نفسه أمام مسائل تُنفّره من اللغة العربية كما نفّره منها أساتذته في الثانوية، حول الجملة الاسمية وصيغ المبالغة والمفعول معه أو به أو فيه؟
أليس جديرا بهؤلاء الطلبة أن يدرسوا منتخبات من الأدب العربي تحبّب إلى قلوبهم لغة العرب، التي أصبحت مُنكرة عند هذه الأجيال؟ هذا الأستاذ الجليل السوري أو المغربي أو المصري أو العماني، الذي يدخل عليهم ليبيّن لهم الفوارق بين صيغة المبالغة والصفة المشبّهة، هل يرى نفسه في المكان المناسب؟
مقرّر اللغة العربية العامة يحتاج إلى ثورة حقيقية، تُلغى فيه كلّ دروس النحو وتُختَار فيه نصوص من التراث العربي في الشعر والنثر، في العلم والحضارة والفكر والفلسفة، نصوص يُمكن أن يُحبّها الطلبة وأن يُعجبوا بها ليأخذ كلّ طالب بعد ذلك سبيله في العلوق بلغة العرب وتراثهم، ليعرف الطبيب أن ابن سينا كان ناثرا وفيلسوفا وطبيبا، وليعرف المهندس أن ابن الهيثم كان بصريّا وقارئا للشعر، وليعرف الفقيه أنّ الفقهاء كانوا يطلبون الأدب من مضانّه وأنّ ابن عاشور قبل شروعه في تفسير القرآن في «التحرير والتنوير» توجّه إلى دواوين شعريّة عديدة لشرحها.
دور الأستاذ الجامعي أن يُعلّم الطلبة الاختلاف، وأن يضعهم على سبيل من نهجه، لا أن يُعلمهم أن يبتعلوا معرفة ضالّة، وأن يرجعوها – فعل التقيّؤ- يوم الاختبار.
«مدخل إلى اللغة العربية» هو مقرّر يعرض فيه القسم ما يُمكن أن يُرغّب طلبة الآداب في الدخول إلى قسم اللغة العربية، فهل أنّ ما يُرغّب الطلبة هو طرح مسائل في النحو ممجوجة ملّها الطلبة منذ مراحل الثانوية؟
أكتفي بهذه الإشارات.
دور الأستاذ الجامعيّ هو الترغيب في المعرفة، فكيف تحوّل إلى مصدر إرضاء لمنْح الدرجات وللتنفير من المعرفة؟
شكليّات تطوير التعليم العالي لا يمكن أن تجبّ هذه الثغرات، ولا يُمكن للنصوص أن تُحدّد دور أستاذ التعليم العالي، الذي تُرغمه النصوص القانونية على الحضور في المكتب للدوام، وعلى التحدث مع الطلبة لإرشادهم، وعلى تقديم مادة علمية منها تكون أسئلة الاختبارات، سهل جدا أن يكون أستاذ التعليم العالي المُدَجّن ناجحا، سهل جدا أن تأتي وقت الدوام وأن تضبط درسا ممجوجا تعرضه بقرف على طلبة لا يحبونه، وأن تمتحنهم فيه فينجحون نجاحا باهرا وهم كارهون للأستاذ وللمقرر، الأصعب والأفضل، كيف يُمكن أن تجعل الطالب مفكّرا ناقدا لك قبل أن ينقد أي فكر، كيف يُمكن أن تحوّله من آلة تلقّ إلى جوهر متدبّر، وأن تجعله يُحب ما يفعل، دور الأستاذ الجامعيّ في عالمنا العربي هو معلّم صبية لا يختلف عن دور أيّ مدرّس من مدرّسي المدارس الابتدائية والإعدادية، والأدهى من ذلك أنّه يقوم بدور الوصيّ على المعرفة الحارس الكسول عليها، يحرسها بدرجات هي سيف مسلّط على الطلبة، والحال أنّ دوره الحقّ الذي لم تعه المؤسّسات الجامعيّة البيروقراطيّة الإدارية المقيتة، ولم يعه أغلب من تدجّن من أساتذة الجامعة، أنّ دوره ماثل في تعليم الأجيال المنطلقة حريّة التفكير، وطرق التدبير والتحصيل العلمي، ومنهجيّة طرح السؤال قبل البحث عن الأجوبة، ونسبيّة المعرفة، بما فيها المعرفة التي يقدّمها، وإعطاء الفرص للطلبة للتعبير عن جموحهم وشتّى أفكارهم، حتى في نقد أسس العلم الذي يُدرّس.
كانت طالبة فلسطينية تدرس معي في مرحلة الدكتوراه، وهي ممّن تعلّم في مدارس عربية شرقية، وممّن تعوّد الكشاكيل والملازم التي يُقدّمها أساتذة الجامعات لتُحفظ بنصّها وبفواصلها ليوم الاختبار، تقول بعد درس الأدب الذي كان يُلقيه أستاذنا الجليل حمادي صمود، والذي لم يكن يُملي شيئا ولا يُوزّع درسا ولا ملزمة ولا كتابا يُبرمَج في الغرض، «كلّما دخلنا على هذا الأستاذ خرجنا بأسئلة فقط دون أجوبة». دور الجامعيّ هو الوقوف على السؤال، أمّا كتلة المعرفة، إملاءً ونقلا من كتب أو من صفحات الوايب، فهي متوزّعة بين البشر كافة، فمتى يستفيق الجامعيّون من سُباتهم الدوغمائيّ، ومن علم السلف الراكد؟

كاتب وأكاديمي تونسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية