الآيات العاصمة

حجم الخط
0

إن أسرار الكون لا حصر لها، وكلما تطور العلم في استكشاف مجاهيل الكون الذي حثنا القرآن الكريم على سبر أغواره ما يزال البحث متواصلا وسيظل مستمرا. وفي كل ذلك أكثر من دلالة على أن لهذا الكون قوانين كلية ما فتئ العلم يتعلم منها للكشف عن أسراره وألغازه. ورغم كوننا نؤمن بأهمية العلم، وندعو إليه، لا نرى الانطلاق منه ضرورة لاتخاذه بديلا عما جاء به القرآن الكريم لتنظيم حياة الناس، وجعلهم يسيرون على الطريق السوي لإعمار الأرض، لتكون لفائدة البشرية، وليست مجالا للصراع والتسابق على التسلح لخدمة مصالح قوم على حساب أقوام أخرى. ويبدو واقعيا وتاريخيا أن العلم منذ الثورة التكنولوجية بدل أن يوظف لهذا الغرض بات ساحة لفرض الهيمنة. والحضارة الغربية المادية مثال صارخ على ذلك. فبادعاء كونها تحقق تطورات علمية وتكنولوجية مذهلة تسخر ما توصلت إليه لإبادة شعوب، واستعمار ونهب خيرات شعوب أخرى، وما تتوصل إليه اليوم لبسط هيمنتها على العالم. وفي الوقت نفسه تسهم في تخريب العالم الطبيعي، وتعريض الطبيعة للتدمير. وثمة بون شاسع بين من يدافع عن العلم النافع، والعلم الذي يخدم تجار الحروب، والنزعات اللاإنسانية، وإن اتخذت لها شعارات تنكرت لها، وصارت مناقضة لأصولها ذات البعد الإنساني التي تكونت إبان نشأتها التاريخية.
لا يتعارض القرآن الكريم مع العلم الذي يسهم في خدمة البشرية. ولذلك نجد آياته القاصمة تلح على الربط بين عالمي الشهادة والغيب، وتحرض الإنسان على التعارف والتعاون، وعدم التمييز بين الأعراق والأمم إلا بالعمل الذي يخدم الإنسان. تلح الآيات القاصمة على أن للكون خالقا يدعو إلى الهدى، ضد الضلالة، وإلى الخير نقيضا للشر. وهي بذلك تتوجه إلى الناس جميعا بمن فيهم المؤمنون. وانطلاقا من هذا الطابع نعتبر كل القرآن الكريم قاصما للجهل وللطغيان. وأن ما نسميه «الآيات العاصمة»، باعتبارها نوعا خطابيا مقابلا، تتكامل مع سواها لتحفيز الإنسان ـ المؤمن على ما يؤمِّن له حياة سعيدة في الدنيا باعتقاده في وجود حياة أخرى، يعمل بمقتضاها، لأنه يحاسب في آخراه على كل أعماله.
لقد بينت أن التمييزَ بين الآيات، بوصفها بنيات صغرى، منطلقٌ للوصول إلى تحديد شامل لأنواع الخطاب القرآني برمته. وأن اختياري التمييز الثنائي للآيات «القاصمة» عن نظيرتها «العاصمة» يتسع لكل الأنواع التي يمكن أن يتضمنها كل القرآن الكريم لسبب بسيط هو أن كلا منهما متعدد الدلالات، ويستجمع كل الآيات في ترابطها وتداخلها وتكاملها عكس ما نجده مثلا في صنف «آيات الهداية والاستغفار» مثلا كما أشرت إليها في مقالة «الآيات القاصمة»، والتي نجدها تلح على نوع معين دون أن تتضمن نقيضها في بعض الآيات عكس ما نجده في هذا التصنيف.
ولإعطاء مثال على ذلك، أرى أن الآية الكريمة: «ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين» (آل عمران، 85) يمكن أن نعدها في آن واحد آية قاصمة وعاصمة. إنها تتوجه إلى غير المؤمن لتؤكد له أن اتباعه لغير الإسلام قاصم لظهره لأنه يتبع ما يخالف الإسلام. وهي في الوقت نفسه عاصمة للمؤمن لأنها تبين له أن إيمانه بالإسلام يمنعه من أن يكون من الخاسربن، وتبرز له أنه على الطريق السليم. لقد اخترت هذين اللفظين لتوصيف الآيات باعتبارها بنيات جزئية لأنها تتكامل مع القرآن في كليته. وفي قراءة متأنية ودقيقة يمكننا الوقوف على الأنواع الفرعية التي يتضمنها كل من النوعين، في ذاته، من جهة، من خلال ما يحمله من مقومات قاصمة أو عاصمة، ومن جهة أخرى، في علاقاته بغيره من الأنواع الفرعية تأكيدا للتكامل والترابط بين مختلف الآيات القرآنية في شموليتها. ولعل ذلك يؤدي بنا في النهاية إلى إيجاد روابط بين البنيات الجزئية والكلية، مع الوقوف على طبيعة وخصوصية كل منها، وفي علاقتها بغيرها.
إن مادة «قصم»، و«عصم» كما أبرزت حين نستعملهما معا في وصف الآيات نؤكد ما يحملهما القرآن الكريم من دلالات متعددة. فمادة «قصم» وردت في الهلاك الذي أصيبت به القرى الظالمة في قوله تعالى: «وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة، وأنشأنا بعدها قوما آخرين» (الأنبياء، 11). أما مادة «عصم» التي تكررت 13 مرة، من بينها قوله تعالى: «يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم. ومن يضلل الله فما له من هاد» (غافر، 33). وفي سورة الأحزاب: «قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا، أو أراد بكم رحمة، ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا» (الأحزاب، 17). ومن مشتقات مادة عصم: «استعصم»، و«اعتصم» التي تؤكد من بين ما ترمي إليه الاعتصام بحبل الله: «وكيف تكفرون، وأنتم تتلى عليكم آيات الله، وفيكم رسوله. ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم» (آل عمران، 101). وغيرها من الآيات، كما نجد في قوله تعالى: «إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله، وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين. وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما» (النساء، 146). إن مشتقات «عصم» تختلف عن «قصم» التي كان توجيهها إلى الظالمين ولذلك تعاملت معها على أنها كلها موجهة أساسا إلى غير المسلمين، وفيها كما استشهدت ببعض الآيات التي تتضمن دلالاتها ما يشير إلى أن عدم اتباعها دال على الجحود والضلالة. وما الدعوة إلى التفكير في النفس، وفي خلق الله، وفي الموت، وضعف الإنسان عن خلق أي شيء، وما شابه ذلك من التحديات القاصمة لمعتقدات وأقاويل غير المسلمين والتي نجد من بينها ادعاءاتهم الباطلة حول القرآن الكريم وتشكيكهم فيه: «قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا» (الإسراء، 88).
نلاحظ بجلاء الفرق الواضح بين الآيات القاصمة الموجهة إلى الكفار، والعاصمة الموجهة إلى المؤمنين بصفة عامة. وكما أشرت إلى ذلك فكلا النوعين، يتضمن أيضا إشارات إلى كل منهما معا في أنواع فرعية يمكننا التوقف عليها من خلال رصدها في جزئياتها تأكيدا لما قلناه عن كونهما معا متعددي الدلالات، ويقدم كل منهما في سياقات مختلفة. كما نلاحظ في قوله تعالى: «قالت الأعراب آمنا. قل: لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم، وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا. إن الله غفور رحيم». (الحجرات، 14). إنها تحمل دلالة الآية القاصمة للمسلمين الذي يتوهمون أنهم مؤمنون، وهم ليسوا كذلك، وهي في الوقت نفسه تعصمهم من ادعاء ما هم عليه، ما دام شرط طاعة الله ورسوله لم يتحقق لديهم بالصورة التي تجعلهم مؤمنين حقا. وهكذا يمكننا ضرب الكثير من الأمثلة التي يزخر بها القرآن الكريم.
لقد انتهيت إلى وصف الآيات القاصمة من خلال تدبرها لأني رأيت في تحدياتها ما يدعو إلى التفكير والتأمل، وهي التي أحالتني إلى وضع مقابلها: «الآيات العاصمة»، وكان كتاب أبي بكر بن العربي «العواصم من القواصم» دافعا لتبني هذا التمييز، رغم كون الكتاب يسير في اتجاه مختلف عما نحن بصدده.
*كاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية