اغتيال سليماني والحرب تهدّد المنطقة

حجم الخط
2

استطاعت إيران ومناصروها أن تجعل من شخصية قاسم سليماني بطلا كاريزميا في مستوى الخميني، إن لم يكن أكثر! عمليا، لأن سليماني قائد عسكري بارز جريء ومؤثر، ويعتبر واجهة متقدمة لتنفيذ السياسات الإيرانية.
صحيح أن عملية ترامب تمت بدعم من نتنياهو، في الإغارة على ركاب سيارتين على طريق مطار بغداد، حملتا سليماني وأبو مهدي المهندس نائب رئيس الحشد الشعبي ومرافقيهما ومستقبليهما، هي عملية إجرامية غادرة وغبية، وقد أدت إلى استشهادهما و25 شخصا آخرين، بعد نزولهما من طائرة ركاب مدنية مقبلة من دمشق . من زاوية ثانية فإن تضخيم ردود الفعل الإيرانية للحدث وتهديداتها، وكل حلفائها بما فيها العديد من الفصائل الفلسطينية بالرد، كما التهديدات الأمريكية المضادة أيضا، وارتفاع شعار طرد الأمريكيين من العراق ومن عموم المنطقة، كما اقتصار أنشطة العديد من الفضائيات المؤيدة لإيران وغيرها وقصر برامجها على هذا الحدث وتداعياته لأكثر من أسبوع، والطريقة اللافتة لتشييع القائدين في العراق ومعظم المدن الإيرانية، كل ذلك ساهم في تصعيد التوتر وزيادة التوقعات باحتمال الذهاب إلى الحرب. ساهم في ذلك أيضا إعلان إيران بالتخلي عن «الطرد النووي»، ومناشدة دول الاتحاد الأوروبي لها للالتزام بالاتفاق النووي مع (5+1) حتى بعد انسحاب ترامب منه.
كل ذلك أدّى من ناحية إلى زيادة التصعيد باتجاه الحرب الحتمية، ومن ناحية أخرى تكاثر دعوات الدول بما فيها روسيا والصين، كما التمنيات الشعبية بما في ذلك من قلب أمريكا إلى ضبط النفس وعدم التورط في حرب ستطال المنطقة بأكملها، ولن يعرف أحد تداعياتها وزمن انتهائها. جديرٌ ذكره أن الحزب الديمقراطي ورئيسته نانسي بيلوسي اعتبرت خطوة ترامب حمقاء، تماما مثل السيناتور هارد بيكس، الذي اتهم ترامب بقتل من ساهم في التخلص من «داعش»، ولذلك وصل به الأمر إلى اتهام ترامب نفسه بالإرهاب. وسيحاول الحزب الديمقراطي الحد من صلاحيات ترامب في إعلان الحرب على إيران.
ما دفع ترامب لانتقاء الظرف للقيام بالاغتيال، أحداث العراق الأخيرة، وظهور سياسات مناوئة لإيران، وتتهمها بمحاولة السيطرة على العراق ومقدراته، كذلك المظاهرات الحاشدة التي حاولت اقتحام السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء، بعد قصف القوات الأمريكية لمواقع «حزب الله» وسقوط قتلى. من الأسباب أيضا: أزمتا ترامب ونتنياهو، فالأول يعاني قضية عزله، والثاني يعاني الشك في حقيقة استمرار تسلمه لمنصبه، إضافة إلى رعبه من دخول السجن. بالطبع الاثنان عدوانيان ويقودان بلدين مهمتهما الأساسية ارتكاب العدوان، ليس على الفلسطينيين والعرب فحسب، وإنما على دول كثيرة في العالم، من تلك التي لا تلتزم بأوامرهما. المسألة الأخرى، أنه بالإضافة إلى العدوانية المتأصلة في حلف الشّر هذا، فإن الرئيسين المأزومين ونظرا لشعور النقص لدى كلّ منهما، يحاولان إثبات نفسيهما بالقدرة على الفعل وارتكاب العدوان، ذي التداعيات الخطيرة ليس على منطقتنا فحسب، وإنما على بلديهما وعلى الاستقرار في العالم. كذلك، فإن كلا منهما (وكما هو معروف ومعلن) يواجه معركة انتخابية في هذا العام، نتنياهو في الثاني من مارس/آذار المقبل، وترامب في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وبالتالي فإن اعتداءاتهما على البلدان الأخرى لا تخلو من خلفيات انتخابية، هدفها كسب أصوات المزيد من الناخبين. نربط بين نتنياهو وترامب لأن الأول هو المحرض الأساس لضرب أهداف إيرانية واغتيال قادة إيرانيين.

مَن سيدفع ثمن حرب باتت على الأبواب، كالعادة، هم العرب (والإيرانيون هذه المرة) كون ساحات بلادهم ستكون مسرحاً للعمليات

من الجدير ذكره أيضا.، أن الرئيس الأمريكي ترامب، وفي تصريح له هدد باستهداف 52 موقعاً ثقافيا إيرانيا، وصفَها بانها «على أعلى مستوى من الأهمية لإيران والثقافة الايرانية» وأنها ضربة ستكون «سريعة جداً وقوية جداً»! في تصريحه هذا عمليا استحضر ترامب في الصراع الدائر مع إيران (وإن بطريقة غير مباشرة) أزمة الرهائن الامريكيين في عام 1979 (بعد تسعة أشهر من إطاحة نظام الشاه) حينما اقتحمت مجموعة من الطلاب الإسلاميين السفارة الأمريكية في طهران، وأحتجزوا 52 أمريكياً من سكان السفارة كرهائن لمدة 444 يوماً، (4/11/79 – 20/1/80 ). عدد الأهداف يساوي تماما عدد الرهائن، حين قامت السلطة الايرانية الجديدة بإطلاق سراحهم بعد فوز الجمهوري ريغان على الرئيس الديمقراطي كارتر، وهي الأزمة التي أسهمت بإسقاط الأخير، إثر الفشل الذريع الذي حصدته محاولته إنقاذهم في إبريل/ نيسان 1980. بعملية عسكرية منيت بالفشل، وأدت إلى تدمير طائرتين ومقتل ثمانية جنود أمريكيين وإيراني مدني واحد.
نقول: باستحضار ترامب أزمة الرهائن عبر توعّد ايران باستهداف المواقع الثقافية، يمكن القول من دون حذر، أن الطرفين الإيراني والامريكي صَعَدا شجرة عالية يصعب توفير «سُلّم» إنقاذ لأي منهما، في ظل حرص كل منهما على استحضار التاريخين القديم والحديث! فقد وصفت إيران اغتيال سليماني بأنه شبيه بالانقلاب الامريكي على حكومة رئيس الوزراء الإيراني الأسبق المنتخب شعبيا الوطني الثوري محمد مُصدّق، (حين خلعته أمريكا بالقوة من منصبه عام 1953، في عملية مخابراتية سمتها أجاكس واعترفت بها عام 2013) فيما استعاد ترامب أسطوانة الرهائن، رغم إدراك الذين أوحوا له بفكرة كهذه وذكّروه (قبل اغتيال سليماني) بأنه نفسه لم يَقُم بالردّ على إسقاط الطائرة المسيّرة باهظة الثمن والمتقدمة جداً تكنولوجياً، التي أسقطتها طهران، فضلاً عن صمته عن الضربة المُذهِلة التي وجّهَت لمنشآت شركة ارامكو في خريص وابقيق، من دون التأكد من الجهة التي وقفَتْ خلفها وطهران مُتّهمَة دائماً لدى واشنطن وحلفائها. لم يدرك ترامب ربما كما بطانته، بأن أزمة الرهائن أسهمت في إسقاط كارتر، كأول رئيس ديمقراطي) في القرن العشرين لم يُجدّد له مرة اخرى) فهل سيتكرّر السيناريو ذاته مع ترامب، فيخسر امام المنافِس الديمقراطي المحتمل جو بايدن؟ الإجابة مرهونة بالمدى والتوقيت الذي ستتدحرج الأمور إليه، بعد اقتراب الطرفين من نقطة اللاعودة. ليس فقط في ان طهران ما تزال رافضة أي محاولة لِخفض التصعيد الذي أخذت عواصم اقليمية على عاتقها مهمة الدعوة إليه والترويج لأهميته، تحت شعار «حفظا للأمن والسِلم الدوليين»، في وقت صمتت فيه واشنطن عن الرد – نفياً أو تأكيداً- على ما كشفته طهران عن محتوى الرسالة السِريّة، التي قام القائم بالاعمال السويسري (سويسرا هي التي ترعى المصالح الامريكية في إيران بعد قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1980) بتسليمها الى الخارجية الايرانية، خاصة العبارة الأبرز فيها «لِيكُن ردكم على اغتيال سليماني موازيا لحجم هذا الاغتيال»، أي أن واشنطن تقبل الانتقام بحدود معقولة. تبدو الأخيرة مُحرَجة ورئيسها بات في قبضة حزب الحرب من ذوي الرؤوس الحامية، الذي يُحكِم سيطرته على قرار البيت الابيض.. أمّا احتمالات الذهاب الى حرب مُتدحرِجة.. فقد باتت الآن أقرب منها من أي وقت مضى.
وفعلا لم يعد السؤال هل تندلع حرب إيرانية/ أمريكية في المنطقة أم لا (وربما إقليمية أوسع) بل متى ستبدأ طلقتها الأولى؟ بعد إقفال طهران وواشنطن الباب أمام أي محاولة لاحتواء التصعيد، الذي أوصلته إدارة ترامب لذروته بالتصريحات الاستعلائية المحمولة على ازدراء وعربدة، وخروج سافر على الأعراف السياسيّة والدبلوماسية، وإن بدت في بعض الأحيان وكأنها محاولة لإخفاء حال الارتباك وحجم الورطة التي أوقعت نفسها فيه، باستهدافها مسؤولاً «رسميا» في دولة، وإن كانت مُعادية وعلى أرض دولة ترى فيها «حليفا» تطمع في استعادة نفوذها المُتراجِع فيه، ورغبة غير محدودة بسلب نفطه، ومنح الشركات الأمريكيّة فرصا سبق أن فقدتها!، خصوصا بعد إجبار قوات الاحتلال الأمريكي على مغادرة العراق، من دون تحقيق اي مكاسب من عدوان غاشم، وجاء وصف ترامب لتلك الهزيمة المدوية بانها «حرب خيار وليس حرب ضرورة»، لتعكس مدى التخبّط الذي تعيشه إدارته، خاصة تعهده خلال حملته الانتخابية (2016 ) بإعادة القوات الأمريكية إلى البلاد، مُؤكداً أنه لا يؤيد مواصلة الحروب الخارجية.
إيران أعلنت شروعها في تنفيذ خطوات المرحلة الخامسة والأخيرة من تقليص تعهداتها النووية التي التزمتها في الاتفاق النووي، الأنظار شاخصة إلى ما ستتخذه القيادة الإيرانية من خطوات، ليس بالضرورة أن تكون فورية ومُعلنة، ترامب يهدد بأنّ بلاده (ستستخدم مُعداتها العسكرية.. الجديدة الجميلة بلا تردّد) لكن مَن سيدفع ثمن حرب باتت على الأبواب، كالعادة، هم العرب (والإيرانيون هذه المرة) كون ساحات بلادهم ستكون مسرحاً للعمليات، ليس فقط في كونها «تستضيف» قواعد وجيوشاً أمريكية، بل لأن بلداً عربياً واحداً لم يرفع صوتاً عالياً، ليقول: إنه لن يسمح بأن تكون بلاده مُنطلقاً لاعتداء على أي دولة في المنطقة، أو ساحة لتصفية حسابات بين آخرين. وهو أمر تدركه واشنطن جيداً كما طهران، وتعملان على هَديِه، بعد أن ارتفعت في فضاء المنطقة دعوات جادة لإخراج الجيوش الأمريكية من المنطقة بِرِمّتها.
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رجا فرنجية - كندا:

    أن أعتبار الحزب الديمقراطي ورئيسته نانسي بيلوسي بأن خطوة ترامب حمقاء, وكذلك السيناتور هارد بيكس، ألذي قام بأتهام ترامب بألأرهاب هي حقائق ثابتة ليس لها ما يبررها. ليس هناك من سبب يدعو رئيس ألولايات ألمتحدة من ألقيام بعمليات أرهابية كهذه على أرض دولة تستضيف قواته. ما ألذي يمنع ترامب من ألقيام بأعلان حرب على أيران عوضاّ عن ألقيام بمثل هذا ألعمل ألأرهابي بأمتياز. لا يبدو أن عدم قيام ترامب بأعلان حرب ضد أيران هو بسبب ما جاء بوعده خلال حملته ألأنتخابية وهو ألذي يقوم بتغيير رأيه بضعة مرات في أليوم ألواحد, بل بسبب أدراكه بأن مثل هذه ألحرب ان بدأت فلن تنته قبل سقوط عدد لا يستهان به من قواته.

  2. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

    شكراً أخي فايز رشيد. هناك نقطة مهمة يجب ذكرها. وفقاً لتلفزيون سوريا (المعارضة) ونقلاً عن وسائل إعلام إسرائيلية فإن بوتين خلال زيارته الأخيرة ومقابلته بشار الأسد في قاعدة (أو مقر قيادة) عسكرية روسية قرب دمسق نقل رسالة إلى الأسد من إسرائيل مفادها أن إسرائيل لن تضرب (مواقع في) سوريا إلا في حال سمح الأسد لإيران ضرب مواقع أمريكية أو إسرائيلية من الأراضي السورية. هذا دليل على أمرين. أولا لن تحصل حرب شاملة بين أمريكا وحلفائها من جهة وإيران وحلفائها من جهة أخرى. وثانيا الأسد ينعم دائما بحرص إسرائيل على بقاءه سالماً منعماً في خدمة مصالحها وأمنها والأسد بدورة ظهر في الصورة ضاحكا بشكل عريض عند مقابلته بوتين وكأنما تحييد سوريا وبمباركة موسكو جعله ينسى كل فواجع سوريا وفاجعة (بنظر حلف المقاومة طبعا) مقتل سليماني نفسها. إذاً رد إيران أو ردودها بما فيها حلفائها في العراق على مغامرة ترامب (وهي جريمة حسب القانون الدولي) سيبقى بلا تداعيات (مع أن ضربتها على القاعدة الأمريكية هي أيضا انتهاك لسيادة العراق حسب القانون الدولي أيضاً) كما كان رد حزب الله الأخير على مغامرة نتنباهو. يبدو لي أحياناً أن العلة فينا نحن العرب فقط, حيث جعلنا بلدانا محتلة من كل من له مصلحة فيها خدمة لمصالحه دون غيرها.

إشترك في قائمتنا البريدية