استشهاد مشفى الشفاء

عندما يستشهد الشفاء فعن أي إنسانية نتحدث؟ وعندما يقتل المشفى فعن أي بشرية نتحدث؟ بهذا السؤال البسيط عبّر أحد الناجين من مذبحة مشفى الشفاء الأخيرة في قطاع غزة عن ما يشعر به كل من عاش وواكب وراقب تفاصيل الأسبوعين الماضيين وما جرى في المشفى المذكور، الذي بدا وكأن إسرائيل أرادت أن تنتقم منه، كونه لم يوفر لها في غزوتها الأولى له تلك الحجة التي ساقتها بوجود مركز للتحكم والسيطرة فيه.
استشهد مشفى الشفاء كلياً صباح الأول من نيسان/أبريل في عيد الكذب، لأن كل ما يجري ما كان ليكون إلا أكذوبة غير قابلة للتصديق، أن تهدم منطقة جغرافية بحجم سنغافورة وتقتل وتجرح ويتشرد أهلها وناسها في زمن الحريات وثورة المعلوماتية والاتصالات، لا يمكن إلا أن يكون ضرباً من ضروب الخيال. استشهد مشفى الشفاء في حرب المشافي، التي اغتيل معه فيها عدة مشافٍ أخرى، وماتت معه من جديد اتفاقية جنيف ليتبعها في النهار ذاته موت اتفاقيات روما وفيينا، مع استمرار القصف والقتل والدمار، ولينقضي النهار ذاته مع قتل إسرائيل لسبعة من موظفي المطبخ المركزي العالمي من الأجانب والفلسطينيين.

لقد اغتيلت المشافي في حرب يهدف فيها نتنياهو لاغتيال الهوية الفلسطينية برمتها عبر التهجير والإزاحة والإفناء، فهل يستمر مسلسل الإجرام والذبح؟

الموت إذن في محرقة الشعب الفلسطيني لعام 2023/2024، لم يطل البشر والشجر والحجر فحسب وإنما طال أيضاً مجمل الاتفاقيات الدولية، والقيم والأخلاق الإنسانية، بل ماتت البشرية برمتها. فعدد الشهداء الفلسطينيين من البحر إلى النهر تقريباً، إنما يعادل مليونا وستمئة ألف أمريكي، وثلاثمئة وخمسة عشر ألف بريطاني،  وثلاثمئة وعشرين ألف فرنسي. هذا الكم الهائل من الشهداء وستة أشهر من الحرب إنما هي دليل واضح على سقوط مدوٍ لكل من مّهد ودعم وساند وراوغ وتواطأ وتآمر لصالح استمرار المحرقة التي فاقت نكبة عام 1948. إن قتل إنسان واحد أياً كانت مشاربه السياسية والدينية وانتماءاته العرقية والاجتماعية، هو خسارة كبيرة لا محالة، فما بالكم بقتل عشرات الآلاف؟ ما بالكم لو قررت إسرائيل قتل مئات الآلاف من الأمريكيين والإنكليز والفرنسيين؟ طبعاً هذا لن يكون ليس فقط لاعتبارات سياسية وإنسانية وعسكرية فحسب وإنما أيضاً لأن التفرقة العرقية باتت واضحة بصورة فاقعة وهو ما أسس له تجريد الفلسطينيين وغيرهم من الشعوب من إنسانيتهم ووصفهم بـ»الحيوانات البشرية»، وهو ما ينطبق وفق الفرز العرقي المقيت على الشعوب، التي طحنت بفعل قنابل وقذائف وصواريخ العالم «الحر». نحن لن نقبل طبعاً بقتل أحد أياً كانت جنسيته ودينه وعرقه، لكننا نسوق المقارنات النظرية لنثبت أن العالم الذي اختزل مفاهيم الحرية والديمقراطية والإنسانية على ذاته، هو من سمحت بعض زعاماته وبرلمانته وشرعنت اغتيال الهوية الفلسطينية عن سبق إصرار وترصد.
لقد بلغ الإسفاف في التصريحات خطوطاً غير مسبوقة، فبعد أشهر على تصريحات ما يسمى بوزير التراث الصهيوني عميحاي إلياهو، التي دعا فيها لإلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة، طل قبل أيام عضو الكونغرس الجمهوري تيم والبيرغ من مشيغان داعياً من جديد لإلقاء قنبلة نووية على غزة، وهو ما يؤكد أن التصنيف الآدمي إنما يعيش أزمة أخلاقية كبيرة سيكون لغزة وفلسطين هزاتها الارتدادية في كل أرجاء الأرض، بفعل المحرقة المتواصلة.
لقد وصف البعض الحرب على غزة كونها حربا على المستشفيات، ولعل الأنسب أن توصف بالحرب على البشرية قاطبة، خاصة أننا وفي ظل القرية الكونية التي فرضتها ثورة المعلومات، بتنا نترابط وجدانياً وقيمياً كبشر وشعوب ومجتمعات، ما يعني أن مليارات المتألمين من الناس حول العالم لما يجري في فلسطين تكاد لا تحصى، لكن المطلوب هو الأثر والتأثير وليس التضامن فقط .لقد اغتيلت المشافي في حرب يهدف فيها نتنياهو لاغتيال الهوية الفلسطينية برمتها عبر التهجير والإزاحة والإفناء، فهل يستمر مسلسل الإجرام والذبح؟ أم ستشهد البشرية صحوة غير مسبوقة؟ لن أقول هذه المرة كما اعتدت أن اختتم مقالي بالقول ننتظر ونرى! بل أقول لن ننتظر أكثر.. ونريد حتماً أن نرى.. قولاً وفعلاً.
كاتب فلسطيني
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية