الشاعر الروسي إدوارد ليمونوف… آخر صعاليك الأدب

حجم الخط
3

■ أوكرانيا انتخبت رئيساً جديداً لها، الأكثر شباباً في تاريخ البلد، ففولديمير زيلينسكي لم يتجاوز الحادية والأربعين من عمره، واللافت أنه كان كوميدياً ومنتجاً، اشتهر ببطولته في سلسلة «خادم الشعب» التلفزيونية (2015)، التي تصور أستاذ تاريخ يصير رئيساً في كييف، ذلك السيناريو الهزلي صار حقيقة، وزيلينسكي كسب أصوات الناخبين وثقتهم، وهو المحسوب على الأوساط الثقافية، في بلد لا يزال يلمع في ممارسة الرقابة، ومنع الكتب، وعلى رأس قائمة الكتاب الممنوعين في أوكرانيا نجد إدوارد ليمونوف، آخر صعاليك الأدب، الناجي من القرن العشرين. فهل يُرفع عليه الحظر ويعود إلى قراء بلده الأصلي؟
تقدم ليمونوف في السن، وبلغ السادسة والسبعين، بدون أن يتخلى عن عاداته المستدامة، فهذا الكاتب الروسي الأوكراني المولد، الذي لم تغفل عينه عما يجري في البلاد العربية، بالتعليق أو النقد مرات عن مآل الثورات الشعبية منذ 2011، لا يزال مثيراً للجدل، يرفض كل القوانين الوضعية، يقف ضد الجميع ويتمرد على نفسه حتى، ولا تكاد تمر ثلاثة أشهر بدون أن نسمع عن توقيفه في موسكو، ثم إطلاق سراحه، كي يُفاجئنا، كل مرة، بنصوص سيرذاتية، يذكرنا فيها بخياره أن الصعلكة مسودة نصوص أساسية، والمغامرة ضد التيار قد تكون مكلفة شخصياً، لكنها أدرينالين الأدب، الذي يبقى في الذاكرة. وسخرية ليمونوف من العالم الذي يعيش فيه، لا تنفصل عن سخريته من ذاته، فهو يعتبر نفسه جزءاً من الخطايا الكبرى التي أورثنا إياها القرن المنصرم.
الصعلكة لم تكن قدراً على إدوارد ليمونوف، بل اختارها عن قناعة، أو بالأحرى ذهب إليها، مغمض العينين. وُلد في خاركيف شرق أوكرانيا، وهناك لم يحلم سوى بالالتحاق بـ«الكي .جي. بي» السوفييتي، راود مافيا المدينة، وعرف السجن، ولكن أيضاً تعلم الشعر، وكتب واشتهر بين رفاقه أنه شاعر المطحونين، ولم ينتظر طويلاً قبل أن ينتقل إلى موسكو، بحثاً عن شهرة أدبية، تعرف على كتاب وفنانين ودبلوماسيين، كما كتب ـ لاحقاً ـ في سيرته، والشعر لم يكفه، بل ظل يصر على الالتحاق بالمخابرات، لكن ضعف البصر منعه، فشعر بأول خيبة في حياته، وقرر هجر موسكو محبطاً، ليجد نفسه في نيويورك، يعيش حياة ضيقة، يشتغل في مهن صغيرة، في فنادق أو في محلات بلا تاريخ، فقد حبيبته إيلينا، وكانت تلك الخيبة الثانية في حياته، التي بسببها، تحول من مشروع شاعر إلى كاتب بوهيمي، يرفض كل من حوله، ولا يتوانى في هجاء أصدقائه أو مقربيه. كان الجميع يهابه، لأن من يقترب منه سيجد نفسه ـ لا محالة ـ جزءا من قصصه، التي لا تُجانب الخيال، وتسمي الأشياء بمسمياتها. بعدما كره موسكو لأنه لم يحقق فيها حلمه المهني، كره أمريكا لأنه سرقت منه حبيبته، حقد على معسكري الصراع آنذاك في الحرب الباردة، وفضّل أن يجد له مكانا في المنتصف، راوده أن يُهاجر إلى واحدة من دول أمريكا اللاتينية، ويندثر فيها لكن قدره ساقه إلى باريس، وبدءاً من منتصف الثمانينيات سوف يصير نجم الحي اللاتيني، طيلة سنوات، مع أن البعض، اليوم، نسي ماذا كان يعنيه اسم ليمونوف آنذاك.

ترحال ليمونوف بين المتضادات وصعلكته، أراد منهما البحث عن حرية، حرية مطلقة وليست مشروطة، لكن الحلم تجاوز الواقع، وفي كل مرة تتعاظم خيباته.

ترحال ليمونوف بين المتضادات وصعلكته، أراد منهما البحث عن حرية، حرية مطلقة وليست مشروطة، لكن الحلم تجاوز الواقع، وفي كل مرة تتعاظم خيباته. «إيدي» كما يسميه المقربون منه جعل من كل مراحل تيهه تجربة أدبية، في كل مرة يعيش حدثاً يكتب عنه، ويكون إلى حد اليوم قد أصدر ما لا يقل عن خمسين كتابا، يؤرخ فيها للصعلكة الأدبية، كما عرفناها على كتاب من القرنين التاسع عشر والعشرين، وتكاد هذه الظاهرة تختفي، فقد صار الكتاب يميلون للاستقرار أكثر من الترحال، يودون التكرار بدل المغامرة، بما تتضمنه من خطر، ولكن أيضا من دهشة وتحديث في الكتابة. وكثيرا ما كان ليمونوف، في تصريحاته، يدعو للتفريق بين شخصه وشخصيته في كتاباته، مع أننا نفشل في الفرز بينهما، وكلما قرأنا له وجدنا ظله يحوم، كما لو أنه لا يجد متعة سوى عندما يكتب عن حاله وعن مفارقاته الحياتية.
في مطلع السبعينيات، حين وصل إلى موسكو كي يصير كاتباً كبيرا، هكذا أقنع نفسه، لم يجد عملاً في الصحافة ولا ناقداً في مجلة هامشية، طاف في الشوارع الخلفية للعاصمة الروسية، وصار خياطاً، قبل أن يلتقي بعارضة أزياء مبتدئة اسمها إيلينا، ولكن لم يرضه أن تحمل فقط صفة عارضة أزياء، واقترح عليها أن تتحول شاعرة، يكتب لها ويوقع نصوصاً لها، كي يكونا زوجاً مقنعاً في أعين المثقفين، تزوج منها، ولم تفِ موسكو بوعودها له، فهاجر إلى أمريكا. ولأن مخيلة ليمونوف تغذت من أسفاره الداخلية والخارجية، فقد كان لا يتوقف عن ابتكار الخدع والحيل، حين سُئل مرة لماذا غادر موسكو نحو العدو الأمريكي آنذاك رد أن الـ»كي.جي.بي» هدده، رغم أنه نفسه كان يحلم بالانضمام إليه، وحين تبين أن الأمر غير صائب، قال إنه فعل ذلك من أجل زوجته الشابة وقتها، كي تجد مكانة لها في عالم الموضة، فانتهت علاقته بها في نيويورك، وحقد على أمريكا بسبب رجل سرقها منه.
هذا الشاعر الروسي الذي انتهى به المطاف مؤرخاً أدبياً، وكاتب سير، وصل إلى حافة الإفلاس في أمريكا، ووجد نفسه يعيش من مساعدات اجتماعية، فهجرها ووصل إلى باريس، وصار نجما فيها، حيث وجد ناشراً يهتم به، يدفع له إيجار بيت، ويترجم كتبه من الروسية للفرنسية، ويقدمه للإعلام على أنه خليفة سولجنيتسين، وبأنه سيفضح النظام السوفييتي، وفهم ليمونوف تلك اللعبة وراح في أكثر من مناسبة يسب مواطنه سولجنيتسين، ويقلل من قيمته، ويقدم نفسه بديلاً عنه. نجح في باريس وعوض خساراته في نيويورك، بل صار مواطنا فرنسيا، لكن بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، عادت إليه أشباح الماضي، وقفل عائدا إلى موسكو، كي يُثير الجدل من جديد، وينخرط في السياسة في معارضة شرسة لكل من يحكم، من بوريس يلتسين إلى فلاديمير بوتين، وبات من الكتاب الأكثر مقروئية ومن المتصالحين مع السجون في آن. لم يسلم أحد من لسانه السليط، وقليلون من فهموا أنه ليس مجرد كاتب، بل هو شاهد على نهاية حقبة أدبية، هي حقبة الصعاليك، وأنه يشعر بظلم أن تُمنع كتبه في بلده الأصلي أوكرانيا، فهل سيفتح له الرئيس الجديد الحدود التي أغلقت في وجهه منذ سنوات؟

٭ كاتب جزائري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فالح الحمراني:

    وللدقة أن ادوارد ليمونوف لم يولد في خاركوف الأوكرانيةوإنما في ضواحي مدينة نيجني نوفغرد

  2. يقول Bennani:

    مقال ممتع.شكرا.

  3. يقول إيدي-جنيف:

    سرد دقيق وممتع لمسار شيخ صعاليك مونمارتر, وسائر الحي اللاتيني, شخصياً تعلمت منه وأنا صغير أول كلماتي الروسية
    أنغرمت بهده اللغة من ورا شخصية إدفارد كما تناديه ساكنة السان ميشال أو “إيدي” كما يسميه أيامها صغار الصعاليك من أمثالنا, عشر سنوات تقريبا بعد رحيل جون بول سارتر, ليمونوف الحاضر في قلب باريس الفوضوية المنصهر في حمضها النووي قرر أن ينسحب, رافضا خلافة سارتر والسلطة الرمزية المترتبة عنها, رفض كل دلك كما يليق بصعلوك فوضوي منسجم مع نفسه وعاد إلى موسكو ولم يكن حتى على وفاق معها…
    شكرا للعزيز سعيد خطيبي على هده الأستعادة الجميلة الموفقة جداً برأيي.

إشترك في قائمتنا البريدية