ألمانيا وغزة: مسمار في نعش السياسة الخارجية النسوية للبلاد

حجم الخط
0

عندما عرضت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك المبادئ التوجيهية لسياستها الخارجية النسوية في الأول من شهر مارس 2023، كان الكثيرون متحمسين. وأعلنت وزيرة الخارجية آنذاك أنه «إذا لم تكن النساء في مأمن، لن يكون أحد في مأمن». تصريح الوزيرة الألمانية يبدو الآن وكأنه مهزلة بالنظر إلى الحرب التي تشنها إسرائيل على السكان المدنيين في غزة والدعم الألماني المكثف للحملة العسكرية الإسرائيلية. فمنذ 7 أكتوبر، قُتل أكثر من 33 ألف شخص في قطاع غزة، جلهم من النساء والأطفال. وهكذا، في غضون ستة أشهر فقط، شوّهت ألمانيا سمعتها كمدافعة عن مبادئ النسوية، والسلام، والالتزام بالقانون الدولي. فالنساء، ومعهن كل سكان غزة، لسن في مأمن ـ ومن هذا المنطلق على الأقل، فقد صدقت مقولة وزيرة الخارجية.
وضعت وزارة الخارجية الألمانية لنفسها عشرة مبادئ توجيهية كجزء من سياستها الخارجية النسوية. ينص المبدأ التوجيهي الأول على أن منع نشوب النزاعات المسلحة وحماية السكان المدنيين أمر في غاية الأهمية. وتركيز السياسة الخارجية النسوية في ألمانيا على الصراعات المسلحة أمر معقول، فقد كشفت الأبحاث أن النساء والأطفال يعانون بشكل خاص من العواقب غير المباشرة للنزاعات المسلحة، مثل شل قدرة الناس على الوصول إلى الغذاء والماء والرعاية الطبية. المثير للدهشة أن الحكومة الألمانية لم تشرع في الدعوة إلى «وقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية» يؤدي إلى «وقف دائم لإطلاق النار» إلاَّ في أواخر شهر مارس 2024. وإلى ذلك الحين، لم ترفض الحكومة الألمانية الدعوة إلى وقف دائم لإطلاق النار فحسب، بل رفضت وقف إطلاق النار رفضا صريحا، مع أنه سبق للعديد من وكالات الأمم المتحدة أن قرعت ناقوس الخطر في بيان جماعي صادر في يوم 3 نوفمبر 2023 ينصّ على أن النساء والأطفال والمواليد الجدد يعانون إلى أقصى الحدود من عواقب القصف الإسرائيلي. فلو كان المبدأ التوجيهي الأول موجِّهاً حقا للسياسة الألمانية، لجعل حماية المدنيين ووقف العنف أولويةً قصوى للحكومة الألمانية. لكنّ العكس كان صحيحا.
وتركز السياسة الخارجية النسوية في ألمانيا أيضا على الحد من انتشار الأسلحة ونزع السلاح. فإن تم تطبيق هذه السياسة في إطار معقول، لكانت وسيلة ناجعة للحد من احتمالات الصراع وزيادة الأمن لجميع الناس. فبخصوص الوضع في قطاع غزة، فإن التناقض بين استراتيجية السياسة الخارجية النسوية والسياسة الفعلية صارخ إلى أبعد الحدود. فبدلاً من التركيز على وقف التصعيد، عمدت الحكومة الألمانية إلى تأجيج الصراع من خلال صادرات الأسلحة. ففي عام 2023، زادت صادرات الأسلحة إلى إسرائيل عشرة أضعاف مقارنة بالعام السابق، وقد تمت الموافقة على معظم هذه الصادرات بعد 7 أكتوبر. ورخصت الحكومة الألمانية ما قيمته 326.5 مليون يورو من صادرات الأسلحة إلى إسرائيل، والتي شملت أسلحة حربية بقيمة 20.1 مليون يورو. وفي الشهرين الأولين من عام 2024، وافقت الحكومة على تصدير أسلحة أخرى بقيمة تسعة ملايين يورو.
وفي 23 فبراير، دعا خبراء الأمم المتحدة جميع الدول إلى الوقف الفوري لتسليم الأسلحة إلى إسرائيل، بما في ذلك رخص التصدير والمساعدات العسكرية. ووفق اتفاقية جنيف لعام 1949، يجب على الدول الامتناع عن توريد الأسلحة والذخيرة إذا كان من المحتمل استخدامها في انتهاكات القانون الدولي. وفي تقرير صدر مؤخراً، استخلصت مقررةُ الأمم المتحدة الخاصة المعنية بوضع حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، فرانشيسكا ألبانيز، أنّ ثمة دلائل وجيهة تشير إلى أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في قطاع غزة. ومع ذلك فقد اكتفت الحكومة الألمانية بتذكير إسرائيل بضرورة الالتزام بالقانون الإنساني الدولي. وعليه، إذا تم الكشف لاحقًا عن أن الحكومة كانت على علم منذ أشهر عديدة أن إسرائيل ترتكب جرائم حرب في غزة، ومع ذلك استمرت في الادعاء علنا بأنها تعتقد أن إسرائيل تلتزم بالقانون الإنساني الدولي، سيعدّ ذلك خداعا متعمدا للجمهور الألماني.

تقرّ الأمم المتحدة بشرعية التقارير التي تفيد بأن النساء والفتيات الفلسطينيات المحتجزات تعرضن لأشكال متعددة من الاعتداء الجنسي. ومع ذلك، لم تقم الحكومة الألمانية بإدانة العنف الجنسي

وعلى الرغم من التوصيات الدولية التي تدعو إلى الامتناع عن توريد الأسلحة، تواصل ألمانيا تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، وهو انتهاك واضح للقانون الدولي وللسياسة الخارجية النسوية الداعية إلى السلام والحد من انتشار الأسلحة ونزع السلاح. في ضوء الوضع المروع في قطاع غزة، زادت ألمانيا مساعداتها الإنسانية، مشددة في الوقت ذاته على التزامها الإنساني، وهي مظاهر خادعة لا غير. فتوفير الأسلحة لطرف متحارب وفي الوقت ذاته التأسف على الضحايا المدنيين من جراء استخدام هذه الأسلحة، أمر مناقض.
ويؤكد المبدأ التوجيهي الأول للسياسة الخارجية النسوية أيضًا على مكافحة العنف الجنسي في النزاعات المسلحة. فقد خلصت براميلا باتن، الممثلة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالعنف الجنسي في مواضع الصراع، بالتعاون مع فريق من الخبراء، إلى أن الرهائن المحتجزين لدى حماس قد تعرضوا، وربما لا يزالون يتعرضون للاغتصاب والتعذيب الجنسي. بالإضافة إلى ذلك، يشير الخبراء إلى أن ثمة أسبابا وجيهة للاعتقاد بأن العنف الجنسي المرتبط بالنزاع وقع في عدة مواقع يوم 7 أكتوبر. لقد أدانت الحكومة الألمانية، عن حق، الاعتداءات الجنسية التي ترتكبها حماس، وتعهدت بالمساعدة في جمع الأدلة ودعم الضحايا، وطالبت بفرض عقوبات على مرتكبي هذه الاعتداءات على مستوى الاتحاد الأوروبي. هذا وقد أدان خبراء الأمم المتحدة أيضًا العنف الجنسي الممارس على النساء والفتيات الفلسطينيات. وعبّر الخبراء عن قلقهم البالغ إزاء الاعتقال التعسفي لمئات النساء والفتيات الفلسطينيات منذ ذلك الحين. وتقرّ الأمم المتحدة بشرعية التقارير التي تفيد بأن النساء والفتيات الفلسطينيات المحتجزات تعرضن لأشكال متعددة من الاعتداء الجنسي. ومع ذلك، لم تقم الحكومة الألمانية بإدانة العنف الجنسي الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي على النساء والفتيات الفلسطينيات، ولا بالدعوة إلى توضيحات بخصوص ذلك، مع أنه من أهداف السياسة الخارجية النسوية حماية حقوق جميع النساء المتضررات من هذا الصراع.
وينص المبدأ التوجيهي 3 على أن السياسة الخارجية النسوية يجب أن تعالج بشكل فعال الأوضاع التي تتعرض فيها حقوق المرأة والفئات المهمشة للخطر. ووضع المرأة في غزة خطر للغاية، إذ تعاني نحو 60 ألف امرأة حامل في غزة من سوء التغذية والجفاف وعدم القدرة على الحصول على الرعاية الطبية. ويتم إجراء العمليات القيصرية دون تخدير. ولا تستطيع النساء الحصول على لوازم الدورة الشهرية أو الوصول إلى المراحيض أو المياه النظيفة. لقد انتقدت الحكومة الألمانية، بحق، وضع المرأة الأفغانية في ظل حكم طالبان وانتهاك النظام الإيراني لحقوق المرأة في إيران. ومع ذلك، لم يتم التعامل مع المعاناة الشديدة للنساء والأطفال الفلسطينيين ولو بقدر قليل مقارنة بذلك، ولم يتم تحديد المسؤولية عن معاناتهم بشكل واضح، وهو ما يغذي الانطباع بأن الحكومة الألمانية لا تتخذ موقفا حاسما بشأن حقوق المرأة إلا عندما يكون مرتكبُ الانتهاكات خصما سياسيا.
عدمُ القدرة على تنفيذ سياسة خارجية نسوية واضحة المعالم يؤثر بدوره تأثيرا سلبيا في النسوية نفسها. والوضع يزداد خطورة بحكم أنّ الحركة النسوية واجهت أوقاتا عصيبة في العالم العربي منذ الحقبة الاستعمارية. وقد صاغت الباحثة المصرية الأمريكية ليلى أحمد مصطلح «النسوية الاستعمارية» ما يشير إلى أن وضع المرأة يحدد الثقافة المحلية. ووفقاً لهذا المنطق، لا يمكن تحقيق تقدم المرأة إلا إذا تم التخلي عن الثقافة المحلية. فدعوات المستعمرين لإصلاح حقوق المرأة يُنظر إليها على أنها هجمات على الثقافة المحلية، وبالتالي فهي أداة للحكم الاستعماري. وفي الماضي القريب، عرضت الحكومة الأمريكية غزو أفغانستان على أنه وسيلة تخدم تحرير المرأة الأفغانية. وقد خلف هذا الاستغلال لحقوق المرأة آثاره. ففي العديد من المقابلات التي أجريتها مع نشطاء حقوق المرأة في الأردن والمغرب والجزائر وسوريا، تم التأكيد مرارًا وتكرارًا على شدة تعرض النساء للهجوم من قبل المحافظين الاجتماعيين في بلدانهن بحجة أنهن في خدمة «العملاء الغربيين» لأنهن نسويات. ويُستخدم التمويل الذي تتلقاه العديد من هذه المنظمات من مانحين غربيين حجة على أن جماعات حقوق المرأة امتداد للمصالح الغربية. والجهات الفاعلة في الدول العربية، التي ترى في الحركة النسوية أداة غربية بحتة للسلطة مستخدمة بشكل انتقائي، ترى السياسة الحالية التي تنتهجها الحكومة الألمانية مبررا لهذا الادعاء.
بعد مرور عام على نشر استراتيجية السياسة الخارجية النسوية، بات واضحا أن السياسة الخارجية الألمانية لا تُعدّ سياسة نسوية فحسب، بل أيضا هي انتهاك صارخ للمبادئ التوجيهية التي وضعتها جمهورية ألمانيا الاتحادية نفسها. ويُعدّ تنفيذ هذه السياسة من قبل حكومة يقودها حزب الخضر والديمقراطيون الاشتراكيون أمرا خطيرا للغاية، فكلا الطرفين، منبثق ولو جزئياً من حركة السلام، ما يثير الدهشة بخصوص موقفهما الحالي. وفضلا عن ذلك، فإن صمت اتحاد الشباب الخُضر والحزب الاشتراكي وكذلك صمت المركز الألماني للسياسة الخارجية النسوية، هو الآخر مثير للدهشة. فالسياسة التي تبدو في الظاهر تقدمية هي التي في واقع الأمر تعجّل بإضرام فتيل الحرب.

* أكاديمية ألمانية، حصلت على درجة الدكتوراه في دراسات الشرق الأوسط من جامعة أكسفورد عام 2015. وترتكز أبحاثها على التفاعل بين القانون والسياسة والقضايا الجنسانية في غرب آسيا وشمال أفريقيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية