أزرار في ثوب عروس كنعانية

تأخذنا الأزهار، وهي في مكانها، إلى مكان آخر وإلى عمر آخر، ونحن في حضورها لسنا مَنْ كنّا في غيابها. تلك هي قوّة الجمال… أن تغيّرنا لنشفّ ونخفّ، ونصبح جزءاً من وجود لا يكتفي بالبحث عمّا فيه، بل يعلو بنا إلى ما فينا من سماء صافية، على مناديل تطير في أقاليم الروح.
الأزهار هي تلك اللغة الأخرى، اللغة التي تحتل من نظام الانسجام الكلّي الدقيق للطبيعة ما تحتله الصورة في الشعر. فمنذ القصيدة الرعوية الأولى وإلى الآن، كانت الزهرة رسالة بوح مركزية، وقراءة تأويلية لمعنىً لا يُدرك إلا باستمرار بقائه معنىً لا يُدرك، جميل وضروري كفراشة.
في وسعها، وهي وحيدة، أن تؤلّب المشهد الخارجي على نفسه، حين تتفجر على السفح من دمها الملوّن، تتحوّل الأزهار من جديد إلى ، فتصير الطبيعة امرأة، وتصير المرأة أرضاً، ولا عطر إلا منها.
وحين تطلع، شاردةً في الصحراء، فإنّ الزهرة تقطع امتداد الرمل المتشابه، تضع حدّاً للا نهائيته المفجعة، وتحدّد للمسافر محطات فرح مائي في الرحيل الطويل. فما دامت هي هنا، فإنّ الحياة هنا، ولا فجر إلا منها!
من فرط بهجتنا المداهمة، لا نعرف إنْ كانت هي بنت الربيع أم بشارته ـ تلك السنونوة النباتية، فهي متى طلعت وأينما طلعت، أبدعت للربيع زمناً خارج التقويم.
وفي وسعها، وهي وحيدة، أن تعدّل المشهد النفسي داخلنا، حين تحرّك في رمادنا الباطني رفرفة الطائر الأخضر، فنخرج إليها وتدخل فينا بعناق الليل والنهار، بزواج الغامض والواضح.
وهي جواب العاشق على حيرة القلب. ألم نتوسل الأقحوانة الصغيرة جواباً: تحبّني أم لا تحبّني… حتى آخر ورقة؟ ألم نتأمل طويلاً في لون الورد القادم إلينا، إنْ كان أحمر، أم أحمر قانياً، أم أرجوانياً، لنقيس مدى السعادة ـ سعادتنا بكمية الحب التي تحملها ظلال الفوارق الصغيرة؟
ولها، للأزهار، في الأساطير مصير إنساني وتبادل دلالات. فقد أطلق الكنعانيون على شقائق النعمان اسم ‘جراح الحبيب’. وحوّل الإغريق فتى وسيماً إلى زهرة نرجس. ثمّ جعلوا لزهرة اللوتس مذاقاً سحرياً يُفقد من يذوقها شهية العودة إلى وطن.
لكن لكلّ بلاد زهرة تدل عليها، زهرة وطنية تُنسب إلى بلادها أو تُنسب اليها تلك البلاد. وهكذا تُدرج الزهرة في تعريف الهوية، في احتفائها بذاتها، أو في حنينها إلى أرض ذاتها.
من هنا، فإنّ قراءة أزهارنا هي جزء من تعميق معرفتنا الوطنية بخصائص بلادنا ـ من جهة، وبمكوّنات نظامنا النفسي ـ من جهة أخرى، وهي جزء من تدريب الذات على ضرورة الامتلاء بثقافتها الجمالية، وعلى تربية علاقتنا بالمشهد الطبيعي، وعلى الدفاع عن انسجام هذا المشهد، وانسجامنا معه، أمام ما يهّدده من تخريب ينكّل بهوية المكان الجمالية والوطنية في آن.
نحن جزء من بيئتنا… جزء من محيط الزهرة، أو أخوة لها في عثورها على مناخها الملائم، وفي رجوعها الدائم إلى الحياة من موت عابر، وهكذا لا تكون الزهرة إلا انبعاثاً وأملاً، مهما بكت… أملاً ينشر فينا الفرح بأننا قادرون على الحياة، وقادرون على حبّ الحياة.
لا نهاية لمديح الأزهار، فهو فصل من مديح الأرض. ولكن في وسع الأزهار أن تقول، أكثر مما تقول اللغة، كم بلادنا جميلة، وكم هي جديرة بأن تُحبّ… وأن تُحبّ أكثر. لا لأنها بلادنا فحسب، بل لأنها بلادنا إلى هذا الحدّ، ولأنها أيضاً جميلة إلى هذا الحدّ، وأكثر. وهكذا، يمتزج شقاء الحبّ برغبة الفناء في المحبوب.
وهذا الكتاب يعلّمنا درساً جميلاً في الحبّ.

ـ مقدّمة كتاب
Flowers of Palestine
Al-Qattan Charitable Trust, London 1997

كلمات مفتاحية

  1. يقول غريب:

    شكرا على النص الجميل. واظن أن الذين يستمتعون بالحب والرومانسية سيحبون هذا النص كما أحبوا درويش.

إشترك في قائمتنا البريدية