من مُشاهدة ‘البْلاَيِكْ’ إلى الوَعْي بعُِِلُومِها

حجم الخط
2

‘الْبْلايكْ’، لفْظةٌ تُونُسيّةٌ دَارجة مُقْْترضة من الفِرنسيّة** وتعْني لوافتََ قصْديريّة تكون ملوّنة في الغالب بالأصفر، عليها كتابةباللّون الآسود، تقوم عادةً في مُفْترق الطّرق وعند بداية مناطق العِمْران ونهايتها لِتُشير إلى المُدن والمنْعرجات ومحطّات التّوقّف وضيعات المعمّرين والثكنات وبروج المراقبة العسكريّة والمناجم وغيرها ، والْبلا يك في مفهومها تنتمي إلى المنظومة العلاماتيّة لقانون السّير في الطرقات المعبّدة، المعروف ب’كُودْ رُوسّو’، وهو قانون ينظّم حركة المرور داخل المدن وخارجها، تُفرض معرفته على سُواق العربات الخفيفة و الثقيلة كالحافلات والشّاحنات
‘البْلايكْ’، عهْدي بها قديمٌ، يعٌود الى بداية اِنْفتاح عينيّ على الطّرقات المعبّدة أثناء مرافقة والدي المُزارع في سفره على كريطتنا قبل اِستقلال تونس بقليل وقرب انتهاء زمن ‘الحماية الفِرنسيّة المنتهي بانتهاء حكم البايات ‘ وقد عرفت فيه المملكة التونسيّة الطرقات المُزفّتة الرّابطة بين المدن والأقاليم، كما جاءت معه السّكّة الحديد. فالبلايك باعتبارها علامة من علامات اِِقتداء المغلوب بالغالب كما يقول ابن خلدون في اللغات كانت تعلو فيها الكتابة بالفرنسيّة ذات الحروف اللاطينيّة تتجه من اليسار الى اليمين على الكتابة العربيّة ذات الحروف العربيّة وتتجه من اليمين غالى اليسار، وإن صارت في ما بعد الكتابة بالعربيّة تعلو الحروف اللاطينية على مستوى بلايك الطّرقات والإدارات لاغير.
هكذا اِزْداد ولَعي بالبلايك كلّما تقدّمت بيََ السِّنّ ولمّاأتجاوزْ في ذلك مرحلة الملاحظة الاِِرْتساميّة العابرة إلى مراحل التفكير العلميّ فيها،،وإن بدا لي من الأستاذ صالح القرمادي هوسٌ بها دون أن أدرك وقتها وأنا لاأزال طالبا بكلّية الآداب والعلوم الإنسانية بتُونُس، أنّ للبلايك عُِِلُومًًا خاصّة بها، وأنّ لها كذلك عُشّاقا يهيمون بها كما يقول صالح القرْمادي في مامعناه، ذاتََ يومٍ في جُمْهور الطّلبة بكُليّة الآداب والعلوم الانْسانية بتونس خلال السّبعينات من القرن الماضي : ‘انأ مَبليّ بالبلايْك لاغير’. وبما أنّ اِهْتمامي بالبلايْك لايختلف عن الاِهتمام بالعلامات عامّة فإنّي لأمْيلُ الآن هُنا إلىمُواصلة السّيرفي التجْريب النقديّ الخاصّ بالبحث في مسالة ‘علوم البلايك’ وقد صارت علوما حافزة على التّفكيروالوعي بأهميّة العلامة باعتبارها جسَد الكون، ومنه جسد الإنسان الّذي هو علامة تصنع علامات فتتكاثر به إلى مالا نهاية له، ومن ثمار هذا الوعي بهذا العلوم الحديثة ‘علم السّيميولوجبا’ وقد هيْمنت مظاهرُه على محيطنا الحيويّ بالسّلب والإيجاب والصّلاح والفساد والتوقيف والشيوع، دون أن يكون لنا به وعيُ كافٍ ودون أن يكون لنا حضورٌ فاعلٌ فيه، والبلايك باعتبارها علاماتٍ، تُحاصرنا اليوم من كلّ النّواحي والجوانب، بل تسْجننا وتسْجن أبصارنا وعقولنا ولاتحرّرها من غقدنا اللّسانيّة المحدّدة لسيمبائنا التّقليديّة، فنكاد أن نفقد إنسانيّتنا ونبقى خارج الجغرافيا السّيميائيّة الحديثة العامّة، لذا كان همّ بحْثنا هذا بالبلايك في مفهومها العامّ باعتبارها علاماتٍ ظلّت عند العرب بلا عِلم، وإن كان لها علم جهويّ في القديم، يعرف ب ‘علم أسرار الحروف’ المعروف ب’السّيمياء’ في مقدّمة ابن خلدون، إلى أن جاء خبرٌ السيميائيّة الطاريء من الغرب وجاء معه جيلٌ جديدٌ من المشتغلين بعلوم اللغة واللسان من الدّارسين العرب المُعاصرين، فحاولوااِسْتيعاب بعض مباديء هذا العلم أو اِستهلاك فتوحاته عن طريق التّرجمة المشوّهة في الغالب، بعد أن كان ولعُهم بالتّوقيف اللفظيّ هادِِرًا عنْدهم طاقات العوْد على بدء والدّوران في فلك المِحْور المملوء وهْمُا، فقل نفْع هذا العلم وغاب فِعله وغلب لغطٌه الدّائريّ على إفادته اللّولبيّة. ولعلّه من المُفيد الإشارة إلى أنّ علم العلامات يبدأ من التّفكير في اليوميّ المُغيّب بسرْد العلامات أي بأخْبارها التي يتنافس رُواتها وخطباؤها في وضعها في حالة حِبكة متخذةً من وهم التّحديد وسيلةً للإقناع والتأثير في منظومة التّلقّي تلقّي اللاّتفكير السّاذج القنوع بالمُسلمات .فيكفي، مثلا، أن ينظر المفكّر السّيميائيّ- إنْ وُجد- في مايُحيط به من بلايك تُوجد في حيّه أو في قريته أو في لباسه أو جسده أو مأكله ومشربه ليطلّ على مشارف تأويلات علاماتها لا تزال معقّّدة تثير أسئلة الشكّ والاِرْتباك وتقطع مع أجوبة الطمْأنة وأوهام اليقين. والعلامات تبدأ من بلايك المُدُن والأنْهج والشّوارع والأزّقّة والمعلومات والأجساد والأشياء والسّاحات العامة والمستشفيات ومعاهد التعليم وحتى أسماء النّاس ولوافت الإشهار للموادّ والاِستهلاكيّة و أسماء السّاسة وزعماء الأحزاب وغيرهم ممّن حوّل علاماتهم سرْد العلامات إلى رموزٍِ دخلت في خانات التّوقيف المتكلّس المُتفتت بدوره، المُنهار على الدّوام بعلامات الإفادة ونفعها. فالعلامة إذن في البلاد العربية فاعلةٌ في حياتنا فعل الدّيكتاتوريّة العقائديّة القاتلة، تشلّ حياتنا الجسديّة والفكريّة وتجمّد فينا طاقات ملكات التّفكير الحرّ، فلا أحََدََ يُولي اِهْتمامًَا بالعلامة خارقا حَوافّها البديهيّة، ولا أحد يقرأ حروفها وألْوانها قراءات اِخْتلافٍ . فالعلامات قبل أن تصير بلايك تصل إلى البلاد العربيّة عن طريق ما يُسمّى بغزو النّهضة الأوروبيّة،كانت قبل ذلك مُجسّدة في رسوم وأشكال وكتابات على المساجد والقصور وغيرها من شارات المُلك والخلافة في مفهومها الجديد، لاسيّما مع الخلافةين العباسيّة والعثمانية، وبما أنّ أمر البحث في البلايك في مفهومها الذي لايحدّعلى اِِِِِمتداد التاريخ العربيّ الإسلاميّ يستحيل عليّ الإحاطة به في هذا المبحث الذي أريده تحسيسًا بالمسألة لاغير، لذا فإنّ تناولي للمسألة من حيثُ التّوقيف والإفادة في مجال علم العلامات ‘السّيميولوجيا ‘ أو ‘السيميائيّة، يكون باعتماد النظر المُجتهد في سرد العلامة ومدى قُُدرة ذلك السّرد على تلْوين العلامة نفْسها وتصْنيفها ضمن علامات التّوقيف، أو علامات الإفادَة، وهلْ يمْكن القول إنّ للعرب تفكيرًا علميًّا في العلامة أم أنّ اهتمامهم بالعلامة الفيزيائيّة كان مُهمّشا ناشزًا بديكْتاتورية العلامة الذّهنيّة علامة الميْتا الآُرْتُودُوكسيّة علامة كتاب التّوحيد، حيثُ تهيْمن علامة المُعتقد الصُّلبة على علامة الظنّ الهشّة، وان لم يكن مصطلح السّيمياء بغريبٍ عن بحوثهم ؟ إنّ مدخلا ينفتح بلوافت وحوافز تغريني فأقترُحها في هذا المجال قد تمكّنني من خوْض مغامرة البحث في هذا الموضوع، موضوع السّيميائيّة المُهْمل من بحوثنا المُعاصرة لوْلاَ حضورُه المشوّه في وُجُوهٍ من تفْكيرنا القوليّ شعرا وحطابة قول مأثور يرتبك بما نقبل على ترجمته ومُحاكاته من مبْتكرات السّيمْيائيين المرْموقين في الغرب أمثال بارْطْ وأيْكووغيرهما من علماء البيوسيميائية أمثال إِيُوَكسكُول **. ولعلّ وَلعي بالعلامة يحْفزُني على التّفكير في علومها انطلاقا من إحدى عشرة مقاربة سيميائيّة قد تساعدني على الظفر بتخريجات غير منتظرة، قد تفتح الباب لغيري من المهتمين بالمسألة، لعلّهم يجدون فيها مداخل لولبيّة تتمطّط دون انتهاء ولا دوَران على بدء، ولعلّي بعملي هذا المتواضع أتحرر من ربقة ما ترسّخ فيّ من عُقَدِ علامة الشعور بالكبرياء والتفوّق العرقيّ، فأسال هل أنا انتمي بالفعل إلى أحسن أمّة أخرجت للنّاس ؟ وهل النّطق بلغة الضّاد فخر لي وفخر للناطقين بهاكما يذهب المتنبّي ؟ وهل أنّ مجرد وضع الحروف العربيّة في مرتبة أعلى من مرتبة الحروف اللاطبنية على الصّفائح يكفي لإعلان غلبة هُويّة المغلوب على الغالب ؟ و هل أنّ العلامات التّافهة يجعلهااعتقادي الزّائف علامات جادّة ؟ وهل يُمكنني أن أتخلص بهذه المقاربات وغيرهها من فرض هيمنة علامة ثقافة شرف الانتماء إلى العشيرة والقبيلة والطائفة والنّحلة والمذهب ؟ أفلست من الإشراف المحمّّدين المعاوين المفضلين على سائر النّاس والبربر واليهود و سائر الأعراب ؟ وهل أنا سوى كائن سيميائيّ لاغير لا فضل لي في غير الثورة على ما تعتقده ذاتي من صواب بعض العلامات دون علامات، ؟ و هل التّّعلق بصدق خبر علامة دون خبر علامة أخرى إلاّ تعلّق بكذب حبْلُه طويلٌ لأنّ العلامة كالكتابة ليست سوى ملء الفراغ بالفراغ، كما سبق لي أن أشرت في كتابي’ استعارة الاستعارة” منذ ما لايقل عن عشرين سنة****، لكن قبل الشّروع في المُقاربات المُقترحة أروم التّمهيد بلوافت وحوافز قد تكون ذرائع من عفو البد يهة بوصفها أملاحا تفتح شاهية البحث في مسألة السّيميائيّة الّتي يبدو لي تناولها شائِكًا مركّبا أمام هالة من التّبسيط والتّعميم ترفع لواءها نخب من المنتسبين إلى سلطة الأكاديميّ في الجامعات العربية بالاِِحتراف، فكانت لهم من سلطة الحُكّام مايجعل من الدّكتوراء سبيلا إلى ديكتاتورية الأمّية العرفانيّة ؟
* ناقد من تونس
Plaque**
Uexk’ll [1940],***
**** استعارة الاستعارة- نومس1993

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمّد خريّف:

    الصرة المرافقة للمقال ليست لي أنا محمّد خريّف

  2. يقول محمّد خريّف:

    المقال لمحمّد خريّف والصورة المصاخبة لغيره

إشترك في قائمتنا البريدية