لغة الكشف والمكابدة

حجم الخط
0

القاهرة ـ من هويدا صالح: قال جان سكاسيل: ‘لا يخترع الشعراء القصائد، فالقصيدة موجودة في مكان ما هناك منذ زمن طويل جدا’ هي هناك ولا يفعل الشاعر شيئا سوى أن يكشف عنها. ربما طال الوقت كثيرا ليكشف لنا سيد محمود، ذلك الاسم المعروف في المشهد الثقافي المصري منذ بدايات التسعينيات كشاعر عامية وصحفي، عن تلك القصائد وذلك الشعر في ديوانه الجديد ‘ تلاوة الظل’ الصادر مؤخرا عن دار العين بالقاهرة. في قلوب لا يهزها الضوء لا أثر للعتمة هناك، فماذا يحدث للباحث عن تلاوة الظل؟ هناك متسع كبير للناظر للمشهد، لكنه الشاعر وحده هو من يفتح كوة لم يدخلها غيره، بحثا عن ظل الله ليرقص معه، الظل الذي هو أمر متوسط بين الضوء الخالص والظلمة الخالصة.
منذ العتبة الثانية للديوان، منذ الإهداء الأول يتضح لنا تلك الفسلفة الروحية الصوفية التي سوف تسم الديوان كله، إنه يهدي قصائده لصوت روحه، وصدى هذا الصوت، الذي يتسرب عبر القصائد. رحلة من الكشف الصوفي والمكابدة تبدأها الذات الشاعرة، فهي تسعى للكشف الذي يمكنها من ألا تتعثر، بل تلتمس سبيلها في تلك المنطقة الوسطى بين العتمة والضوء، بين الظل والحرور’ العطر يمشي معي، أنا كاشف أثره، أراه يمشي بي، معي الموسيقى’
كائنات نورانية ترافق تلك الروح الهائمة التي تتعثر في الضوء، ملائكة يشاركونها الرقص، ويساعدونها على أن تعبر نفقها الطويل، ويتنوع الخطاب ما بين ضمير الأنا، وضمير المخاطب، وكلاهما صوت للروح وصداها.
تستمر رحلة الكشف في أربعة حركات موسيقية طويلة، الحركة الأولى كانت للأعمى الذ تعثر في الضوء، لكنه منح الحبيبة من نوره ما جعلها منارة أو ربما شمسا، وحين قرر أن يمنحها من فيضه صارت غيمة، ومن ثم تحولت لنهر، لكنها أبدا لم ترو عطشه. هي حبيبة مثالية يتقرب إلى الله بالدعاء لها، ويهدهدها ويذهب بها إلى سريرها، ويناديها بكل كلمات العشق، فتسلمه إلى الحركة الثانية، وفي الحركة الثانية يراها زهرة، لكنه لا يتحدث عن عبقها أو جمالها، إنما يخبرها أنه سيحدثها عن الله ‘سأحدثك عن الله، الله الذي مشى بي كل هذا العمر لأجدك مثل نهر تغتسل فيه الملائكة’، لغة كشفية تحاول أن تقبض على تلك الروح العميقة في كل شئ، في الشعر والموسيقى ورقص الفراشات، وبياض أجنحة الملائكة، وشعرية التفاصيل، وبلاغة التعبير عن تلك الروح العميقة الثاوية في كل ما هو جميل وشعري، ليحدث ذلك التناغم المفعم بالرحابة والاتساع ليلائم تلك الروح.
في حركة ‘ أنت زهرة’ تتجلى صورة الحبيبة في كادرات مختلفة ومتنوعة، لكنها كلها تكشف عن ذلك التوحد، وذلك الشغف الذي يملك على الذات الشاعرة روحها، فالذات الشاعرة ترى الحبيبة ‘ سماء لا تنقص شيئا’ و’أغنية تعلم قلبي الإنصات’ و’طيبة كحمامة، حميمية كأغنية، ورقيقة كسر، وقريبة كبحة صوت، ومزدهرة كسنبلة’. لقد مشى ثلاثين عاما، ومع ذلك لم يعرف الطريق ‘أن الربيع قديم، والزهرة جديدة إلا عندما حطت الابتسامة مثل حمامة حملته وطارت، فكانت الشمس عشا وأنا وأنت جناحان، والمساء محض أغنية’.
ثم تأتي الحركة الثالثة لتسمعنا صوت البحر، ففي البدء كان البحر، لكنه يضع عنوانا جانبيا للحركة الثالثة يقول فيها ‘أغازلك وأنا أتنفس كي أستطيع استيعاب الضوء في رئتي’ وهو ما لم يفعله في الحركتين السابقتين، وإذن العنوان الجانبي للحركة الثالثة يشير بشكل لافت كيف يرى حبيبته التي وصفها سابقا بالزهرة. لكنه في هذه الحركة يتناص مع آية توراتية’ في البدء كانت الكلمة’ هنا يرى أنه ‘ في البدء كان البحر، دمعة ذرفها الله، ثم كانت السماء منديلا نديا، وأنت الآن بينهما قمر يضع نجمة في قلب لؤلؤة’ يحاول قراءة الطبيعة قراءة مغايرة، فتفكيره في البحر، ليرى الصفاء الذي تركه جسد الحبيبة، لكنه يفكر أيضا في حسرة الصياد الذي هو صورة أخرى من تجليات صور الذات، لكن البحر يستدعي شاعرا آخر يتناص معه سيد محمود، شاعرا ارتبط اسمه بالبحر، فهو شاعر البحر بامتياز، يستدعي البحر شاعر البحر كفافيس، ليرسم له بورتريه شعريا جديرا به ‘ لدى كفافيس من يؤنس وحدته الآن، فالموسيقى تهز ستائر البيت، وتبتسم على السلم، وهي ترى عاشقين يتبادلان الحب، قبل انكسار الضوء على المرايا’. يخرج من بورتريه كفافيس والبحر، ليقوم بعملية التفات، يحاور الحبيبة، ويربط بينها وبين البحر، فالبحر يشي بها، يحدثه عنها، يصفها له’ أخبرني البحر أنك سمكة، تنام في أحضانه كل يوم، وأكدت له أنك سماءـ ووحدي من عرف الطير، ثم جاء الملاك، وأخبرنا عن الخبيئة التي يراها كلما سار في الرمل، ثم مرت وردة ترتدي جسدك الذي أعرفه وتكلمت عن الربيع، ولما اختلفنا حسم الله الأمر حين تحدث عن الصوفي الذي يرتدي الموسيقى عن معجزة العزف’.
ثم ينهي سد محمود ديوانه بالحركة الموسيقية الرابعة، لينقلنا إلى موسيقى الحجرة، نستمع معه إلى موسيقى يعزفها بأنامله على جسد المحبوبة التي صار أوتارا مهيأة للعزف، وكل شئ يشاركه الفرح، كل شئ حتى الهواء الذي كان بينهما، فيصير الهواء صورة أخرى للذات الشاعرة، ولس الهواء وحده، فثمة رجل يشبهه يضع يده على كتف حبيبته ويشاركها الرقص، هي موسيقى الحجرة التي صبغت كل شئ بنقاوة ومحبة تشارك الشاعر لحظات العشق والشغف.
تتسم قصائد ‘ تلاوة الظل’ بالقصر أحيانا والطول أحيانا أخرى في لغة تغلب عليها السردية، لغة سردية تكاد تخلو من المجاز التقليدي. يرسم الشاعر بورتريهات وكادرات للعشق والشوق والشغف، للطبيعة والحياة، للحبيبة والملائكة، للورد الذي ييتخفى في جسد الحبيبة.
إنه عالم المكابدة والترقي والصعود يصور لنا الوجد الصوفي كما ينبغي أن يكون، ويصور لنا رحلات الكشف الصوفية المقاومة لسلب الفرح من الذات الشاعرة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية